الاثنين، 4 مايو 2015

مسلمو قبرص في مواجهة أوروبا النصرانية ..... أ. محسن عبد المقصود

يعيش المسلمون القبارصة الذين سكنوا هذه الجزيرة منذ قرون، والذين يقدرون الآن بـ 40% من عدد سكان الجزيرة البالغ مليون نسمة، في صراع لم يهدأ منذ أن دخل الإسلام هذه الجزيرة الصغيرة ذات الموقع المتميز.
فقد وصل الإسلام إلى قبرص في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 28 هـ عندما استطاع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فتح الجزيرة بأسطول بحري خرج من الشام ومصر وصالح معاوية أهلها على جزية قدرها 7200 دينار.
ولما حدثت الفتنة ابن سبأ اليهودي وانشغل المسلمون بها امتنع أهل قبرص عن دفع الجزية فغزاهم معاوية سنة 34هـ وسيطر المجاهدون المسلمون على الجزيرة كلها، وأسكن معاوية اثنا عشر ألفاً من جند المسلمين بالجزيرة، وانتقل إليها الكثير من أهل بعلبك ونشروا فيها الإسلام وبنوا المساجد وتناسلوا وتكاثروا بالبلاد .
في سنة 75 هـ دخل البيزنطيون الجزيرة واحتلوها مستغلين الخلاف الواقع بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان.
عندما اندلعت الحروب الصليبية استولى ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا على قبرص سنة 587 هـ، لكن المماليك تمكنوا من الاستيلاء على الجزيرة سنة 830هـ وأرغموا أهلها على دفع الجزية، ولكن سرعان ما جاء البنادقة الإيطاليون واستولوا على الجزيرة سنة 895هـ .
فتح العثمانيون الجزيرة سنة 979 هـ وعملوا على توطيد دعائم الإسلام بها وأسكنوا فيها الكثير من المسلمين حتى صار عدد المسلمين ثلاثة أضعاف النصارى وهكذا غدت الجزيرة بلدا إسلامياً خالصاً وجزءاً من أمة الإسلام.
أكره رئيس وزراء إنجلترا "دزرائيلي" اليهودي سلطان العثمانيين على قبول معاهدة دفاع مشترك سنة 1296هـ تكون قبرص بموجبها تحت الحماية الإنجليزية نظير 92800 جنيه إسترليني.
عملت إنجلترا بجانب خلخلة التركيبة السكانية وإضعاف قوة المسلمين إلى نشر الفساد والانحلال داخل الجزيرة، وعهدوا إلى اليهود بالكثير من المناصب، والذين أنشؤوا بدورهم مراكز تجارية كبيرة بالبلد وجعلوها مقراً لعصابات الصهاينة وعندما قامت دولة اليهود الخبيثة كانت قبرص من أوائل من اعترف بها.
هاجر كثير من اليونانيين إلى قبرص واستوطنوا بها حتى صاروا أغلبية وغلب الجنس اليوناني على الجنس القبرصي لذلك فلقد رأت اليونان أن لها حقاً بقبرص ويجب الاتحاد فيما بينهما وتأسست سنة 1343هـ حركة "أنيوسيس" وتعنى الاتحاد مع اليونان وانضم لتلك الحركة كل القساوسة بالجزيرة وقامت تلك الحركة الصليبية المنشأ والهدف بارتكاب مجازر بشعة سنة 1349هـ راح ضحيتها المئات من المسلمين .
جذور الصراع
نص الدستور التأسيسي القبرصي (1960م) على:
- أن تكون قبرص جمهورية مستقلة ذات سيادة, وتتكون من جماعتين متساويتين في الحقوق والواجبات, إحداهما قبرصية يونانية والأخرى قبرصية تركية.
- إنشاء محاكم منفصلة لكل طائفة, وأخرى مشتركة.
- يكون لكل طرف حق الفيتو على النواحي التشريعية.
- تقسم مقاعد البرلمان القبرصي على أساس 35 لليونانيين و15 للأتراك والمناصب الوزارية بنسبة 7 : 3 لليونانيين والأتراك على التوالي, أما القوات المسلحة فتقسم بنسبة 60% لليونانيين و40% للأتراك.
كما ضمن الدستور في نصوصه (اتفاق الضمان) الموقع بين بريطانيا وتركيا واليونان سنة 1960م، والذي يمنح تركيا حق التدخل لحماية القبارصة الأتراك في حالة تعرضهم للاعتداء من جانب القبارصة اليونانيين, شريطة أن تدعو تركيا الطرفين الضامنين الآخرين للتدخل جماعيًا, فإذا رفضا يكون لها حق التدخل المنفرد. وينطبق نفس الشرط على اليونان بالنسبة للقبارصة اليونانيين. إضافة إلى ذلك يمنع اتفاق الضمان قبرص من الانضمام إلى أية منظمة دولية لا تتمتع فيها بريطانيا وتركيا واليونان بذات الوضع.
وفي نوفمبر 1963م، وعقب إعلان القس مكاريوس نيته إدخال تعديلات على الدستور تتعلق بإلغاء حق النقض الذي يتمتع به كل من رئيس الدولة ونائبه في شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية, اندلعت أعمال عنف بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك حيث اعتبر القبارصة الأتراك هدف تلك التعديلات الحد من سلطاتهم.
تدهورت الأوضاع بين الجماعتين وانتشرت الاشتباكات في سائر أنحاء قبرص. ومن ثم بدأت المساعي المختلفة لتهدئة الأمور, ابتداء بمؤتمر لندن 1964م، مرورًا بقرار مجلس الأمن رقم 186/1964 بإرسال قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إلى قبرص, ثم الوساطة الأميركية عن طريق وزير الخارجية سايروس فانس, ولكن الأمور استمرت في التأزم.
انقلاب يوناني وتدخل تركي
وفي 15 يوليو 1974م وقع انقلاب عسكري مدعوم من النظام العسكري الحاكم في أثينا، في ذلك الوقت، وتولى الرئاسة نيكولاس سامبسون المعروف بعدائه للأتراك وميله لإقامة وحدة قبرصية يونانية. لم يتأخر الرد التركي كثيرًا حيث قرر بولاند أجاويد - رئيس الوزراء التركي آنذاك - إرسال قوات تركية للجزيرة بهدف حماية القبارصة الأتراك, والتي أرسلت يوم 20 يوليو من العام نفسه في إطار ما سمي عملية أطيلة. وبعد ثلاثة أيام وبالتحديد يوم 23 يوليو تم إسقاط النظام العسكري في أثينا, وانعكس هذا على قبرص بوضع حد للانقلاب العسكري فيها.
اجتمعت كل من بريطانيا واليونان وتركيا في جنيف في الفترة من24 إلى 30 يوليو وأنشؤوا منطقة أمنية عازلة تحت سيطرة قوات الأمم المتحدة, واعترفوا بوجود إدارتين مستقلتين في الجزيرة, وفي أغسطس قام الجيش التركي باحتلال الجزء الشمالي من الجزيرة (38% من مساحة الجزيرة) ونتيجة لذلك تبنى مجلس الأمن مجموعة من القرارات التي قضت بتوسيع صلاحيات قوات الأمم المتحدة في الجزيرة لتشرف على وقف إطلاق النار الذي أعلن يوم 14 أغسطس 1974م، وعلى المنطقة العازلة بين قوات الطرفين.
ضعف يوناني وقوة تركية
أصبح الطرف اليوناني في موقف ضعيف في حين أن الطرف التركي الذي كان يتخذ موقفًا سلبيًا ودفاعيًا غدا في موقع قوة وازداد تصلبه وقلت رغبته في المفاوضات, رغم اللقاءات التي تمت بين (دنكتاش) زعيم القبارصة الأتراك وبين الرئيس القبرصي بالوكالة (كلافكوس كليريدس), ورغم الحظر الأمريكي على بيع الأسلحة لتركيا, وقرار مجلس الأمن رقم 365 الصادر عام 1974م المطالب باحترام سيادة واستقلال الجمهورية وسحب القوات الأجنبية، فقد تم إعلان قيام الدولة القبرصية التركية الاتحادية في 13 فبراير 1975م.
وفي نهاية عام 1976م تطور الوضع نسبيًا إثر اتفاق وزيري خارجية تركيا واليونان على استئناف المفاوضات على قدم المساواة ودون شروط مسبقة، وأعقب هذا الاتفاق لقاءان بين الرئيس «مكاريوس» و«دنكتاش» الأول 27 يناير 1977م والثاني في 12 فبرار 1977م بحضور الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم, خصص لتحديد المبادئ التي ستستند إليها المفاوضات اللاحقة. وقد جرى الاتفاق خلال هذين اللقاءين على النقاط التالية:
ـ إنشاء جمهورية اتحادية مستقلة غير منحازة.
ـ تشكيل حكومة مركزية تستطيع تأمين وصيانة وحدة الجزيرة.
ـ تقاسم أراضي البلاد إداريًا بحسب عدة معايير (إنتاجية الأرض, أهميتها الاقتصادية, الملكية).
ـ وأخيرًا المحافظة على حرية التنقل والإقامة وحق الملكية في كل المناطق.
وفي 18 و19 مايو 1979م التقى الرئيس القبرصي اليوناني «كبريانو» بـ«دنكتاش» بحضور فالدهايم, وقد تم التوصل إلى اتفاق من عشر نقاط تحدد الخطوط الأساسية للمفاوضات القادمة بين الطرفين مع إعطاء الأولوية لمسألة إعادة توطين اللاجئين والمسائل الدستورية ومسألة الأراضي.
غير أن المفاوضات توقفت في بدايتها نتيجة الخلاف على مبدأ دولة ذات منطقتين المقترح من الجانب التركي, ثم عادت لتستأنف وتتوقف من جديد في يونيو وأغسطس من عام 1980م.
وفي 15 نوفمبر 1983م أعلن قيام الجمهورية التركية لشمال قبرص التي لم تحصل على اعتراف دولي حيث لم تعترف بها إلا تركيا. فقد أدانها قرار مجلس الأمن رقم 541 الصادر في 18 نوفمبر وطالب بإلغائها, كما دعا الدول الأعضاء إلى مقاطعتها. وقد اتخذت الموقف نفسه دول الكومنولث ودول السوق الأوربية المشتركة, وقد أكد مجلس الأمن بقراره رقم 550 مجددًا رفضه لهذا الكيان.
خطة الأمم المتحدة للحل
في 11 نوفمبر 2002م قدّم الأمين العام للأطراف القبرصية والأطراف الضامنة خطته لحل الأزمة، التي استغرق إعدادها عامين وشارك في وضعها دبلوماسيون بارزون وبإشراف الأمين العام، وقد جاوزت صفحاتها الـ9000 صفحة، وطالبهم بالرد خلال أسبوع. وفي 18 نوفمبر أبلغه «كليريدس» استعداده للتفاوض حول مشروعه إلا أنه بحاجة إلى بعض التوضيحات بينما طلب «دنكتاش» المزيد من الوقت, وفي 27 نوفمبر أبلغ «دنكتاش» الأمين العام استعداده لمناقشة مقترحاته, إلا أنه أشار إلى وجود عدة نقاط هامة تقلقه. وبعد مشاورات قام بها مستشار الأمين العام وضع الأمين العام نسخة ثانية من مشروعه بهدف التوصل لحل وسط بين مطالب الطرفين.
وقد بادرت الأمم المتحدة إلى إجراء استفتاء على خطة الأمين العام في شطري الجزيرة يوم 24/4/2004م قبيل انضمام الجمهورية القبرصية إلى الاتحاد الأوروبي أول مايو من العام نفسه. علها تحقق اختراقًا في القضية باستثمار أجندة الاتحاد الأوروبي بشأن انضمام ليس الجمهورية القبرصية وحسب بل وانضمام تركيا ذاتها إلى الاتحاد.
غير إن النتيجة التي تمخض عنها الاستفتاء، حيث رفض القبارصة اليونانيون الخطة بنسبة عالية (75%) وقبلها القبارصة الأتراك وبنسبة عالية أيضًا (66%)، قد عقد الوضع، ذلك أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي قد اعتبرا الاستفتاء الخطة الأخيرة من جهة، وأن الاتحاد الأوروبي قد وضع أمام معضلة كبيرة: التعاطي مع الحدود التي تمزق دولة ذات سيادة ضمن الاتحاد، ومتاخمة لدولة غير معترف بها من قبل الاتحاد، مع أخذ تأييد القبارصة الأتراك للخطة بعين الاعتبار وضرورة تقديم تعويض مناسب لهم، مثل رفع الحظر التجاري عن جمهورية شمال قبرص التركية أو حتى الاعتراف بها من جهة ثانية.
أسباب تعقد المشكلة القبرصية
تعقيدات المشكلة القبرصية تنبع من أن مساحة الجزيرة تبلغ 9250 كم2, وتقع على بعد 65 كم جنوب ساحل هضبة الأناضول في تركيا وهذا جعل انضمام الجزيرة إلى اليونان أو انفراد اليونان بالسيطرة عليها يعني استراتيجيًا انكشاف الساحل والهضبة التركية, بل وإمكانية توجيه ضربات صاروخية إلى منطقة خليج اسكندرونة الواقعة تحت السيادة التركية والتي يشكل ميناؤها بؤرة تصدير بترولية ضخمة.
كذلك فإن الجزيرة تقع على بعد يزيد قليلاً عن مائة كم عن ساحل سورية, وهي بذلك تقع داخل النطاق الجيو- ستراتيجي لكل من سورية ولبنان وإسرائيل، وهذا حولها إلى ساحة خلفية للصراع العربي الإسرائيلي حيث شهدت الجزيرة مواجهات دامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبر عمليات اغتيال متبادلة. لذا، ولهذه المعطيات الجيو- ستراتيجية، فقد اعتبرها الساسة البريطانيون مفتاح السيطرة الجوية على الشرق الأوسط، إذ تعتبر حاملة طائرات عملاقة راسية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهذا دفع بريطانيا، بعد انسحابها من الجزيرة عام 1960م إلى الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين لها في شرق وجنوب الجزيرة هما قاعدتا «ديكليا» و«أكيروتيري»، وقاعدة الجنوب بها محطة تنصت متطورة.
انعكست أهمية الجزيرة الإستراتيجية على مواقف الدول الفاعلة في المسرح الدولي حيث شكل الموقف من المشكلة القبرصية نقطة خلاف نادرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، فبريطانيا مع إضفاء الطابع اليوناني البحت على الجزيرة، بينما تؤيد الولايات المتحدة حليفتها الإستراتيجية تركيا. ذلك لأن الاستراتيجيين الأميركيين ينظرون إلى المشكلة نظرة عسكرية بحتة. لذا تبنت واشنطن الحل الكونفدرالي الذي يضمن للقبارصة الأتراك كامل حقوقهم، ويضمن وجود حامية تركية في الجزيرة لقطع الطريق على التغلغل الروسي في الجزيرة بالاستفادة من الرابطة الطائفية مع القبارصة اليونانيين الأرثوذكس، إذ من المعروف وجود روابط وثيقة بين الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والقبرصية والروسية.
المصدر: موقع لواء الشريعة
 
أ. محسن عبد المقصود

الأحد، 3 مايو 2015

هكذا تحدث التاريخ عن الطغاة .... مولاي مصطفى البرجاوي

إشكالية الطُّغاة ليست وليدةَ اللَّحظة، كما قد يتخيَّل البعض من خلال تَجْرِبة تونُس ومِصر، لكنَّ جُذورها موغِلَة في القِدَم، ولعلَّ المثال البارز في هذا البابِ "فرعون" الذي اتَّبع نظامًا "ثيوقراطيًّا"؛ أيْ: إنَّه حاكِمٌ يَستمدُّ نظامه السِّياسيَّ من قدرات لاهوتيَّة؛ باعتباره إِلَهًا، أو ابْنَ الآلهة، أو "مبعوثَ العناية الإِلَهية".
كما استمرَّ الأمر كذلك في أوربا الغربِيَّة إبَّان النظام الفيودالي، بل وحتَّى العصر الذي يُسمُّونه عصر الأنوار مع "فولتير" و"جون جاك روسو"، الذي سنَّ ما يُسَمَّى بـ"العقد الاجتماعي"، الذي يفسر أنَّ العلاقة بين السُّلطة والشعب هي علاقة تعاقدية تتمُّ بِمُوجب واجبات وحقوق لِكَلا الطَّرفين، بناءً على عقد يلتزم به الجانبان، ومعايير سياسية واجتماعيَّة تتَّفِق مع رغبة الشَّعب، لكن -للأسف- هذه المعايير تعتمد قواعد علمانيَّة وديمقراطية بِمَفهومها الغربي؛ إذْ إنَّ الديمقراطية -على حدِّ تعبير "جورج كوك" GEORGE COQ-: "لا تُفْضِي إلى ظهور إنسان متميِّز، بل إنسان مُخاتل ومُخادع، وإلى استبدادٍ من نوع خاص".
لكنَّ الحبيب المصطفى سنَّ عقدًا إيمانيًّا ربانيًّا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مبنِيٌّ على القاعدة التالية: "كلُّكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته". وهو المبدأ الذي سار على دربه الخلفاءُ الرَّاشدون، والتزم به السَّلَفُ الصَّالح، لكن ما إنْ حاد حُكَّامُها وسلاطينها عن هذا النَّهج حتَّى شطَّت وتعسَّفت وطغَت.

في معنى الطاغية والطغيان:

يَحْمل هذا المصطلحُ معانِيَ متعدِّدة -حسب سياقات تاريخيَّة معينة، وبيئة معينة- من قَبِيل الاستبداد، والدكتاتورية، والتوليتارية، والفاشية، والنازية، والارستقراطيَّة، والظُّلم.
لكن الطغيان عمومًا هو وضع الشَّيء في غير مَحلِّه، باتِّفاق أئمة اللغة، وهو أيضًا: عبارة عن التعدِّي عن الحق إلى الباطل، وفيه نوعٌ من الْجَور؛ إذْ هو انحرافٌ عن العدل، كما عرَّف الرَّاغبُ الأصفهاني في كتابه (الْمُفردات في غريب القرآن) الطُّغيانَ بأنَّه: "تَجاوزُ الْحدِّ في العصيان، ويقال: "طَغى الماء" إذا جاوز الحدَّ المعقول المعروف، وقوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5].
أمَّا الشوكانِيُّ -رحمه الله- فقال: الطَّاغية: الصَّيحة التي جاوزَت الحدَّ، وقيل: بِطُغيانِهم وكُفْرهم، وأصل الطُّغيان مُجاوزة الحد.
ويذهب الأستاذ "بدر خضر" في كتابه "القهر الإنساني في هندسة الطَّاغية" إلى أنَّ الطاغية مَن أسرف في المعاصي والقهر، وقد يَتَّخِذ من القوانين -خاصَّةً الوضعية- ما يُتِيح له ارتكابَ الفظائع.
أما الدكتور "أحمد القديدي" في مقالاته الرائقة "الطُّغاة والطغيان في نص القرآن" المنشورة في نشرة تونس نيوز 05/01/2004م أن الطَّاغوت عبارة ليس لَها -على ما أعلم- رديفٌ أو نظير أو ترجمة في أيَّة لُغَة من لغات العالَم؛ فهي إشارةٌ من إشارات الإعجاز القرآني الفريد، حَمَّلها الله -سبحانه- كلَّ معاني الطُّغيان (وهو اسم المصدر) إلى جانب مفهوم الْمُبالغة والتضخيم؛ لأنَّ الطاغوت هو الطُّغيان المعظَّم، مع معنى الشمول؛ أيْ: إن الطَّاغوت هو الطُّغيان إذا ما استفحل؛ للتَّعميم على كلِّ سلوكيات الناس، وطمْسِ حُرِّياتِهم، وحَبْس أنفاسهم، وعَدِّ حركاتِهم، ومراقبة سكناتهم، (وضرَب القرآنُ مثَلاً لذلك بفرعون حين قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} [غافر: 29]).
كما أنَّ عبارة الطاغوت تَميَّزَت بكونها مفردًا وجمعًا في نفس الوقت، وأنَّها تستعمل لوصف طاغية أو لوصف طُغاة عديدين، وكذلك لِنَعت الصِّفة (الطُّغيان)، ونعت الفعل (طغَى يَطْغى)، إلى جانب تَحْميل المولى -عزَّ وعلا- لِهَذه العبارة معانِيَ الاستبداد المؤدِّي حتْمًا إلى الضَّلال ثُمَّ الكفر، واتِّخاذها أيضًا رمزًا مُضادًّا للإيمان، مُناقِضًا للإسلام.

أشهر الطغاة عبر التاريخ:

سجَّل التاريخُ نَماذج من الطُّغاة سعَتْ إلى فرْض هيمنتها وجبَروتِها على رعيَّتِها بشتَّى أنواع التنكيل والتقتيل والتجويع، فكان عاقبتها الخُسران المُبين، وخير ما نبدأ به هو النَّمُوذج الوارد في كتاب الله باعتباره المصدرَ الأوَّل في التشريع الإسلامي، يقول تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39].
ثُمَّ لا يمر عصرٌ من العصور الْمُوالية إلاَّ ويطبع التاريخ بخراب الطغاة وظلمهم، ولكن تكون نِهايتهم مُخْزية ومهينة للعبرة والعظة، هيهاتَ هَيهات! أين الْمُتَّعِظون من طُغاة هذا العصر؟!
في عهد الإغريق كان الطُّغيان -حسب تعريف أرسطو قديمًا- هو صورةٌ للحُكم الفرديِّ في مُمارسة السُّلطة دون رقيبٍ ولا حسيب، حتَّى في أثينا التي قالوا عنها: إنَّها اتَّبعتْ نظامًا ديمقراطيًّا، أما أفلاطون فيُشبِّه الطاغية بالذِّئب؛ "لأنَّه يذوق بلسانه دمَ أهله بقتلهم وتشريدهم"، بينما شبَّه القديس "أوغسطين" التاريخَ الرُّومانِيَّ بتاريخ عصابة اللصوص والطُّغاة المتجبِّرين.
لكن الطُّغيان الأكثر فتْكًا بالعالَمِ الغربِيِّ ما مارسَتْه الكنيسةُ الكاثوليكيَّة في شخص الأكليروس (رجال الدِّين النَّصارى) من استعبادٍ واستغلال بأفرادها؛ من خلال ترويجٍ لِخُزعبلات، مستغلِّين سذاجةَ وجهل أهلها التامَّيْن بأمور دينهم؛ من خلال احتكار الكَنِيسة للكتب الدِّينية المُحَرَّفة، ومن أبرز تَجلِّيات ذلك ما يسمى بـ"صُكوك الغفران"، كما أوجب القديس "جريجوري" طاعةَ الْحكم المدَنِيِّ ولو كان طاغيةً؛ لأنَّ كل حكم له علاقة بالله[1].
لكن في المقابل، بإطلالة سريعةٍ على التَّاريخ الإسلاميِّ في أزهي مراحله -وهي الْمَرحلة التي بدأتْ فيها أوربا تغرق في ظلام حالكٍ على المستوى الدِّيني والمعرفي- يعطينا مثلاً أبو بكر الصديق أروعَ النَّماذج في العدل، ونفْي صِفَة القداسة عن نفسه، بل يَعْتبر نفسه بشَرًا عُرْضة للخطأ، فلم يُنَصِّب نفسه ملَكًا ولا نبيًّا مرسلاً، ولَم يُلْصِق بنفسه صفة العِصْمة؛ إذْ يقول: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولَسْت بِخَيركم، فإنْ أحسَنْتُ فأعينوني، وإن أسَأْت فقَوِّموني، أطيعوني ما أطعْتُ الله فيكم ورسولَه، فإنْ عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم".
والباحث والمدقِّق في تاريخ الصِّدِّيق يرى أن تصرُّفه كان غايةً في الحرص على الالتزام بكتاب الله والتأسِّي برسول الله في الرَّعية، والتنَزُّه عن كل مطامع الدنيا وزينتها؛ ثِقَةً منه بأنَّ مَن ساس أمور الناس، فأفاد لِنَفسه منها، كان ظالِمًا لنفسه، وللناس جميعًا، ونفس الشيء ينطبق على باقي الخلفاء الرَّاشدين -رضوان الله عليهم- ومن سار على درْبِهم من السلف الصالح.
لكنْ مع انتشار العقائد الباطنية الفاسدة التي تَمَّ جلْبُها من التيَّارات الفلسفية القديمة، ظهر طُغاةٌ من أمثال المُعزِّ لدين الله الفاطميِّ، الذي اختزل مفهوم الحكم بصراحةٍ غيْر معهودة لَمَّا قال: "هذا حسَبِي" -مشيرًا إلى المال- "وهذا نسَبِي" مشيرًا إلى سيفه.
وفي العصر الحالِيِّ ابْتُلِي العالَمُ الإسلامي بِخُدَّام العلمانيَّة الغربية المتوحِّشة من أمثال الطَّاغية "زين العابدين بن علي"، الذي قضى على كلِّ ما يَمُتُّ للإسلام بِصَلةٍ؛ بدعوى مُحاربة الإرهاب؛ خدمةً للكيان الصِّهيو- أمريكي، وللأجندة الغربية.
عودًا إلى التاريخ الحديث، وبِتَصفُّحِنا للكتابات التاريخية الغربية، نجده مرسومًا بِثُلَّة من القادة الطُّغاة، الذين أبادوا ودمَّروا، وعاثوا في الأرض فسادًا، ولعلَّ من أبرزهم:
- أدولف هتلر (1889 – 1945م): وُلِد في النِّمسا، قاد شعبه الألماني إلى الهَاوية في الحرب العالمية الثانية، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى انضمَّ هتلر إلى الجيش الألمانِيِّ كعريف في الخنادق، وقد هزَّه استسلامُ ألمانيا في عام 1918م، إلى الانخراط في العمل السياسيِّ، وتزعَّم حِزبًا متطرِّفًا "حزب العُمَّال الألماني الاشتراكي القومي"، ويسمَّى اختصارًا (الحزب النازي)، قاد مُحاولتَه الأولى للاستيلاء على السُّلطة فسُجِن، لكن ذلك كان فرصةً لتأليف كتابِه الْمُعنون بـ"كفاحي"، الذي تضمَّن فلسفتَه السياسية؛ إذْ كان يؤمن بِتَفوُّق العنصر الآريِّ الألماني على باقي الأجناس البشريَّة.
وبعد تَهاوي الاقتصاد الألمانِيِّ في عام 1929م -إبَّان الأزمة الاقتصادية العالمية، التي انطلقت من انهيار أسهم بورصة "وول ستريت"- صوَّت أغلبيةُ الشَّعب الألماني لِصَالح "هتلر"، وفي سنة 1932م أصبح الحزب النازيُّ الأكثر تمثيلاً في (البرلمان)، ثم انْتُخِب مستشارًا؛ إذْ عمل على سحق مُعارضيه لِيُعيِّن بعد ذلك نفْسَه قائدًا (الفوهرر) على ألمانيا.
وفي عام 1939م، أطلق الشرارة للحرب العالمية الثانيَّة بِضَمِّه النمسا والسويد وبولندا التي كانت السَّببَ الْمُباشر في اندلاع الْحَرب، لكنَّ انتصاره كان قصيرَ العمر؛ ففي 1945م انتحر "هتلر" بعد انهزامه أمام الرُّوس في معركة "ستالينجراد".
- جوزيف ستالين.. الطاغية الفولاذي: اسمه الكامل "جوزيف فيساريونوفيتش ستالين" (1953- 1879م)، بوصول ستالين للسُّلطة المُطلقة في 1930م، عمل على إبادة أعضاء اللجنة المركزية البلشفيَّة، وأعقبها بإبادة كلِّ مَن يعتنق فِكْرًا مُغايِرًا لفكر "ستالين"، أو مَن يَشُكُّ "ستالين" في مُعارضته!
تفاوتَت الأحكام الصَّادرة لِمُعارضي فكر "ستالين"؛ فتارةً يَنْفي مُعارضيه إلى معسكرات الأعمال الشَّاقة، وتارة يزجُّ بِمُعارضيه في السُّجون، وآخرون يتمُّ إعدامهم، بعد إجراء مُحاكمات هزليَّة، بل ومن أهمِّ استراتيجيَّاته "الطُّغيانية" تطبيقُ ما يُسَمَّى بالاغتيالات السِّياسية، ومِن ثَمَّ قَتلَ الآلاف من المواطنين السُّوفييت، وزَجَّ آلافًا آخرين في السُّجون لِمُجرَّد الشكِّ في معارضتهم لمبادئه الأيديولوجيَّة!
في الأول من مارس 1953، وخلال مأدبة عشاء بحضور وزير الداخلية السوفييتي "بيريا" و"خوروشوف" وآخرين، تدهورَتْ حالة "ستالين" الصحِّيَّة، ومات بعدها بأربعة أيام. وتَجْدر الإشارة إلى أنَّ المُذكِّرات السياسية لـ"مولوتوف"، والتي نُشرت في عام 1993م تقول: إن الوزير "بيريا" تفاخر لـ"مولوتوف" بأنَّه عمد إلى دسِّ السُّم لـ"ستالين" بِهَدف قتله.
- بنيتو موسوليني.. رمز الفاشية: ويُسمَّى أيضًا بالدوتشي، حكَم إيطاليا من 1922م إلى 1943م، وفرَّ إلى سويسرا بعد الهزيمة الألمانية، وتعرَّض له أنصاره، وقتَلوه رمْيًا بالرَّصاص في 28 نيسان/ إبريل 1945م.
يقول عنه المؤرخ "فيشر" في كتابه "تاريخ أوربا الحديث": "استقبَلَت دولُ أوربا الغربيَّةُ نَزعاتِ طُغيانِ الديكتاتور الإيطالِيِّ، وأساليبَ قمْعِه واضطهاده، بأحاسيس العداء والارتياع؛ فقد أنجبَتْ إيطاليا رجلاً مستبِدًّا من طراز قيصر، تُحِيطه هالةُ الخطيب الذَّرِب، وتُحَلِّيه مَكارِمُ رجلٍ من رجال الشعب، ولكنه حاكِمٌ مُستبد، يكدح ويجدُّ لكي يَجْعل أمته قوية متَّحِدة، فكان الثَّمَن الذي دفعه الإيطاليُّون للخيرات والمنافع التي جاءَتْهم على أيدي الدوتشي هو فقدانهم الحرية".
- فرانسيسكو فرانكو (1892- 1975م): رئيس الدولة الإسبانيَّة، وقد قلد "فرانكو هتلر" و"موسوليني" في أنه جعل نفْسَه زعيمًا وأبًا لإسبانيا، وسَمَّى نفسه "الكوديللو"؛ أيْ: زعيم الأُمَّة، كما سَمى "هتلر" نفسه "الفوهرر"، و"موسوليني" نفْسَه باسم "الدوتشي"، وهي كلمة إيطالية لا تختلف في معناها عن كلمة "الفوهرر" أو "الكوديللو" الإسبانية، كان من المفترض أنْ يَنهار نظامُ "فرانكو" مع انْهِيار "هتلر" و"موسوليني" بعد الْحَرب العالمية الثَّانية، ولكن "فرانكو" كان شديد الْحَذر، فأعلن حِيادَ إسبانيا أثناء الحرب، ومِمَّا سجَّله التاريخ ما ارتكبه في حقِّ أهل الريف المَغاربة من استعمال الغازات المَحْظورة دوليًّا.
وفي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975م توُفِّي فرانكو عن 83 عامًا من العمر، بعد نزاعٍ دام 35 يومًا إثر مشكلات في القلب.
وما زال الطُّغاة يَطْفون على سطح العالَم الْمُعاصر، من أمثال "جورج بوش"، الذي أحدث مَحاكِمَ التَّفتيش الجديدة من خلال سجن "جوانتانمو"، و"شارون" الذي يعذَّب في الدُّنيا قبْلَ الآخرة؛ لِمَا مارسه في حقِّ الفلسطينيين الأبرياء.

عاقبة الطغاة الظلمة المتجبرين في الأرض:

ولنا في كتاب الله العِبْرة والعِظَة؛ فهو الْمُوجِّه والْمُخبِر عن مآل الظَّالِم والطَّاغي في الأرض، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]. وقال الله : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42، 43]. وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]. وقال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]. وقال: {أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45].
والظُّلم من الْمَعاصي التي تُعَجَّل عقوبَتُها في الدُّنيا، فهو مُتعدٍّ للغير، وكيف تقوم للظَّالِم قائمةٌ إذا ارتفعَت أَكُفُّ الضَّراعة من الْمَظلوم فقال الله : "وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين"؟!
قال أبو العتاهية:
أَمَا وَاللَّـهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُـؤْمٌ *** وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إلى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْـدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا *** غَـدًا عِنْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
وأكثر من هذا حذَّر الله -سبحانه- أشدَّ التحذير من الظُّلم؛ لِخُطورته الشديدة، يقول عزَّ مِن قائلٍ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]؛ إذْ إنَّ ندم الظَّالِمِ وتَحسُّرَه بعد فوات الأوان لا ينفع؛ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].
واللهَ نسأل أنْ يَحْفظنا من الظُّلم والظَّالِمين، ويَحْشرنا مع حبيبنا سيِّد المُرسلين محمَّدٍ -عليه أفضل الصَّلاة والسلام- والحمدُ لله ربِّ العالَمين.
المصدر: موقع الألوكة.

[1] مخلص المحجوب: "الطغيان قديمًا وحديثًا.. ظاهرة الطغيان في الحكم ضاربة في القدم وموصولة تاريخيًّا بواقعنا"، بتصرف.

التاريخ الإسلامي عرضة للتشويه من قبل أبنائه

لمَّا كان التاريخ ذاكرة ومرآة الأمم وسيرتها، يُجسِّد ماضيها ويعكس شخصية الشعوب عقيدةً وثقافةً وحراكًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله دروس مستقبلها؛ كان من الأهمية بمكان الاهتمامُ به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحًا، بحيث يكون نبراسًا وهاديًا -بعد توفيق من الله- لهم في حاضِرِهم ومستقبلهم؛ فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجودَ لها، إذ به قوام الأمم، تحيا بوجوده وتموت بانعدامه.
ونظرًا لأهمية التَّاريخ في حياة الأمم، فقد لجَأَ أعداءُ وأدْعِياء هذه الأمة -فيما لجؤوا إليه- إلى تاريخها، لتشتيت جمعها، وتفتيت أوصالها، وتهوين شأنها، فأدخلوا فيه ما أفسد كثيرًا من الحقائق، وقلب كثيرًا من الوقائع، وأقاموا تاريخًا يوافق أهواءهم و أغراضهم، ويخدم مآربهم، ويحقق ما يصبون إليه.
موضوع تزوير التاريخ الإسلامي، طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار بقدر الإمكان مكتفيًا من القلادة بما أحاط بالعنق.. إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فكانت هذه السطور تذكيرًا، ونصحًا، وتبيانًا، وتحذيرًا من عاقبة تزوير وتحريف الكلم عن مواضعه..
شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة، والمناهج التربوية - التعليمية، عدد من المغالطات والتُرَّهات والأباطيل والتخرصات التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وتشويه حقهم، وتشويه العقائد الخالصة لصد الناس عنها، هذه المغالطات تقدم بصورة يحسبها بعضهم علمًا وسبقًا في الأركيولوجية التاريخيَّة، وما هي كذلك؛ وهم بهذا يريدون أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولهذا يجب إماطة اللثام وكشف النقاب عن مثل هذه المغالطات وإظهار ما يهدمها من حقائق، ومن بين هذه الأخطاء:
1 - في برنامج التاريخ الطبعة الأولى 1994 – 1995م؛ تضمن درسه الأول (التطورات الكبرى في عصر ما قبل التاريخ) إشارة داروينيَّة؛ مفادها أن الإنسان عرف تطورًا في خِلقته[1]، ضربًا عرض الحائط بالآية القرآنية: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، قالوا في التقويم: إنّه جَعلُ الشيء ذا قوام، وقوام الشيء: ما يقوم به ويثبت، وتُصرِّح الآية الكريمة بأنَّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويذهب بعض أهل التفسير إلى أنَّ المقصود هنا القوام الجسدي، وإن كان اللفظ يحتمله، والراجح أنَّ المقصود هنا هو تعديل القوى الظاهرة والباطنة معًا، أي المادِّية والمعنويَّة، وللأسف الشديد، سقط في هذا الفخ العجيب حتى ممن يعتبرون أنفسهم مفكرين إسلاميِّين؛ إذ يرى أحدهم في إحدى حواراته مع بعض القنوات الإعلامية أن الإنسان أصله قرد وأن نظرية داروين لا تعارض القرآن الكريم، ويقول في هذا الشأن: "لا أرى تعارضًا في القول بأن الإنسان أصله قرد مع النص القرآني"!
لماذا لا نستفيد مما قامت به فرنسا بلد الحريات –كما يزعمون - في تعاملها مع كتاب "أطلس الخلق" للباحث الإسلامي التركي الجنسية المشهور هارون يحيى؛ فبعد أن تلقت وزارة التعليم الفرنسية مئات الاستفسارات حول الكتاب ذي الصبغة الإسلامية - والذي اعتبر في فرنسا بمثابة صاعقة وهجوم علمي على فرضية النشوء والارتقاء "الداروينية"، والتي تقوم عليها المناهج التعليمية والتربوية في العديد من دول العالم، باعتبارها حقيقة علمية مسلمًا بها - تم تسليم الكتاب والاستفسارات لمتخصصين وبدأ التحقيق؛ إذ ساد الاعتقاد بارتباط نشره في فرنسا بوجود أكبر جالية مسلمة في أوربا، وعلى أرض فرنسا، الظن الذي تبدد بعد التأكد من عشوائية التوزيع، حيث شمل مختلف مناطق البلاد، بغض النظر عن التقسيم الديني للسكان..!
بينما وصفت مجلة (New Scientist) الأمريكية الكاتب بـ"البطل الدولي"؛ لجهوده الضخمة في تفنيد مزاعم التطور، اجتاح الزلزال الفكري لكُتَّابِ الأكاديمياتِ العلمية الفرنسية؛ فأثار حفيظة أعداء حقيقة الخلق من ماديين و داروينيين، وعمدوا إلى الضغط على الحكومة لحظر الكتاب، وبالفعل صدر بيان يحظر تداول كتاب أطلس الخلق، ويؤكد أنه "لا مكان له في المدارس الفرنسية"، ولو في خزاناتها..
من أعضَل الأمور وأشدها التباسًا أن لا يكون ممن يدعي النخبوية في العلم والفكر غير قادر على أن يقيس ببيانه أو علمه المطارحة الغربية و يستفيد من أسياده هؤلاء.. لكن للأسف، يريد العلمانيون منا أن نلبس لَبُوس الغرب بقدِّه وقديده، وغثه وسمينه، ويرفعون شعارَ "لتكون متقدمًا لا بد أن تسلخ جلدك وتلبس جلد الأوربي والغربي، بل تغيِّر ذاتك أيضًا"..
2 - وما إن كدنا نطوي صفحات البرنامج السابق الذكر حتى نزل علينا كتاب "المسار الجغرافيا" للسنة الثانية من سلك البكالوريا (البرنامج الجديد)، رغم معلوماته القيمة - بخطأ تاريخي فادح وقع فيه الإخوة الساهرين على إعداد برنامج هذه السنة 2007، ويتعلق الأمر بالأسماء الموضوعة على صورة القدس؛ لإبراز دور القدس في تعايش الرسالات (وليس الأديان) كما ورد في الكتاب: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامِ}، تم وضع مكان حائط البراق[2] حائطَ المبكى! في الوثيقة 3 (ب): مدينة القدس مهد الديانات السماوية الصفحة39.. 
وبدأت تختمر في ذهني أسئلة يستعصي فك لغزها وترابطاتها: هل هو خطأ عفْوِي وقع سهوًا؟! عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"[3].
ولكن في هذا الإطار: ألم يكن من الأجدى – في إطار ما يسمى في الطرائق البيداغوجية الحديثة المتبعة في المغرب "الكفايات الممتدة" - الاستعانة بأهل التخصص؟!
هل الأطُرُ المكلفة بإعداد البرنامج ضحية الإعلام الذي يسيطر عليه اللوبي الصهيوني؟! كما قال أحد مفكريهم: "في عهد الميركانتيلية من يملك الذهب يملك العالم، وحاليًّا من يملك الإعلام يملك العالم"..!
هل الصورة مأخوذة من مواقع ومراجع صهيونية لا علاقة لها بالمواقع الإسلامية؟!
هل بهذه الصورة نساهم في تكريس أكذوبة الصهاينة لأبنائنا بأن "إسرائيل لم تغتصب أرضًا ولم تُبِدْ شعبًا"؟!
هل الإخوة الساهرون ليل نهار في إعداد الكتاب وإخراجه في حلَّة بهية لم يطَّلعوا على التاريخ الإسلامي، وبالأخص القضية الفلسطينية التي هي أمِّ القضايا التي نجح الكِيان الصِّهيَوني في ترويج الأوهام وتزوير الحقائق حولها؟! عجبًا، والله! في الوقت الذي يعمل الكِيان الصِّهيَوني جاهدًا في تشويه الحقائق التاريخية، وفي الوقت الذي يضيق الخناق على المفكرين والمؤرخين الذين يشككون وينفون المحرقة (الهولوكوست) أمثال الفرنسي جاوردي والمؤرخ النمساوي دافيد إيرفينغ المتخصص في الحرب العالمية الثانية - تقع اللجنة العلمية المكلفة بالتأليف في خطأ فادح، يمكن أن يكلف الصهاينة ميزانية ضخمة من أجل ترويجه في وسائل الإعلام العربيَّة والدولية!!!
ألم يفطن هؤلاء النخبة للجرائم والإبادة الجماعية (غزة أخيرًا) التي ارتكبتها - ولازالت ترتكبها - دولة الكِيان الغاصِب لأرضنا الفلسطينية، تجعلهم يعضون على تاريخ القضية الفلسطينية بالنواجذ؟!
وللإشارة، فالمتخصصون في دراسة المسجد الاقصى يرون عكس ما تروجه بعض وسائل الإعلام والكتب المدرسية، فعندما يذكر (المسجد الأقصى المبارك) يتبادر الى الذهن ذلك المعمار والبناء ذي القبة الذهبية، ولكن مفهوم الأقصى المبارك الحقيقي أوسع من هذا وذاك، فالمسجد الأقصى المبارك هو كامل المساحة المسوَّرة الواقعة داخل البلدة القديمة بالقدس الشريف بشكل شبه مستطيل، وهو الذي يعرفه المعظم في هذه الأيام (خطأً) باسم (الحرم القدس الشريف) (هذا يتطلب منا دراسة مستفيضة ونترك ذلك لفرصة لا حقة إن شاء الله).
فالتاريخ، إذًا، ليس مجرد أقاصيص تحكى وروايات تاريخية تروى للتسلية، ولا مجرد تسجيل للوقائع والأحداث وعرضها دون تمحيص وتدقيق، ومن ثم تكون أثرًا بعد عينٍ، خيالاً بعد واقع، إنما يدرس التاريخ للعبرة والعظة وتربية الأجيال وتقويم اعوجاجات الأمة وتنويرها والدفع بها إلى الأمام؛ من خلال الوقوف على ركائز تاريخية متينة بعيدًا عن التلفيق والتزوير؛ يقول تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].. وكل أمة -كما يقول أحد المؤرخين- من أمم الأرض تعتبر درس التاريخ من دروس التربية للأمة؛ فتصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها، ولا يعني هذا تزوير التاريخ لإعطاء صورة وضَّاءة لإحداث أثر معين في نفس الدارس، ولا إلى إغفال عثرات المسلمين وانتكاساتهم، وإبراز الأمجاد والبطولات وحدها؛ فهذا ليس هو المطلوب، إنما المطلوب أن يكون الدرس التربوي الأكبر هو المستفاد من درس التاريخ.. إن أحوال هذه الأمة في صعودها وهبوطها، ورفعتها وانتكاستها إنما تخضع لنواميس وقوانين ربانية ثابتة لا تحابي أحدًا ولا تنحرف عن مسارها من أجل أحد، ويقول الله عز وجل عن أهمية الحدث التاريخي: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، أي: في دراسة الحدث وأخذ العبرة منه يكون الهدى والفلاح؛ لهذا نرجو من الإخوة الساهرين على الحقل التربوي، إرسال مذكرة وزارية إلى كل المراقبين التربويين للتنبيه لخطورة هذه الكلمة (حائط المبكى)، وتصحيحها في الطبعات المقبلة؛ حتى لا تترسخ في ذهنيَّة الأجيال الصاعدة من أبنائنا!!
وَمَا مِنْ  كَاتِبٍ  إلاَّ  سَيَفْنَى *** وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَـــــدَاهُ
فَلا تَكْتُـــبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ *** يَسُرُّكَ فِي  الْقِيَامةِ  أنْ  تَرَاهُ

[1] انظر: الجدل المأخوذ من الكتاب، ص:8
[2] حائط البراق: هو ما يسميه اليهود حائط المبكى (حيث يزعمون بأنه الجزء المتبقي من الهيكل المزعوم، ولم يدع اليهود يومًا من الأيام أيَّ حق في الحائط إلا بعد أن تمكنوا من إنشاء كيان لهم في القدس، وكانوا إذا زاروا القدس يتعبدون عند السور الشرقي، ثم تحولوا إلى السور الغربي).. حائط البراق حائط يحد الحرم القدسي الشريف من الغرب، وترجع هذه التسمية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم - طبقًا لما أشارت إليه مصادر قرآنية ونبوية عديدة في تفسيرها للآية الكريمة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ركب البُراق حتى باب المسجد الأقصى؛ حيث ربط الدابة قرب الباب في مكان بالحائط الغربي للحرم، في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل، ودخل المسجد، حيث صلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السماوات العُلا..
[2] حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما
.
 

مولاي المصطفى البرجاوي

موقعة قصة الإسلام

شهادات استشراقية أنصفت الحضارة الإسلامية

نستقرئ مما اعترف به المنصفون من المستشرقين أن الحضارة الإسلامية كانت هي صاحبة الفضل في إرساء الحجر الأساس للحضارة الأوربية الحديثة؛ حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في الإسراع بقدوم عصر النهضة وما صحبه من إحياء للعلوم المختلفة. فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غربًا لتخوم الصين شرقًا كانت أوربا وبقية أنحاء المعمورة تعيش في ظلام حضاري وجهل، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على الغرب وتطرق أبوابه. فنهل منها معارفه، وبهر بها لأصالتها المعرفية والعلمية.
فلم تَخلُ أوربا من مؤرخين أبصروا ما للمسلمين من فضل في الحضارة الإنسانية على الحضارة الأوربية؛ فألفوا كتبًا ودراسات منصفة تشيد بفضل المسلمين الذي لا يمكن إنكاره. فقد نذكر نفرًا منهم درسوا هذه الحضارة دراسة وافية وأبدوا إعجابهم بها.
فمثلاً يقول "توماس أرنولد": "كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتُبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوربا في القرون الوسطى".
ويقول "جورج سارتون" في كتابه (مقدمة في تاريخ العلم): "إنّ الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون؛ فـ"الفارابي" أعظم الفلاسفة، و"المسعودي" أعظم الجغرافيين، و"الطبري" أعظم المؤرخين".
كذلك يُبدي "تومبسون" إعجابه بالعلوم الإسلامية فيقول: "إن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأثر شعوب غربيِّ أوربا بالمعرفة العلمية العربية، وبسبب الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللاتينية لغة التعليم الدولية آنذاك". ويقول في مكان آخر: "إن ولادة العلم في الغرب ربما كان أمجد قسم وأعظم إنجاز في تاريخ المكتبات الإسلامية".
هذا، وقد أبدى الباحث اليهودي "فرانز روزانتال" إعجابه الشديد ودهشته البالغة لسموّ الحضارة الإسلامية وسرعة تشكلها، فيقول: "إن ترعرع هذه الحضارة هو موضوع مثير ومن أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ؛ ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل وتكوُّن هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء وتطور الحضارة، وهي تثير دومًا وأبدًا أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين، ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة؛ لأنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جدًّا، بحيث يمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ".
وقد أشاد أحد الباحثين وهو "روبرت بريفولت" بالحضارة الإسلامية فقال: "إن القوة التي غيرت وضع العالم المادي كانت من نتاج الصلة الوثيقة بين الفلَكيين والكيميائيين والمدارس الطبية. وكانت هذه الصلة أثرًا من آثار البلاد الإسلامية والحضارة العربية. إن معظم النشاط الأوربي في مجال العلوم الطبيعية إلى القرن الخامس عشر الميلادي كان مستفادًا من علوم العرب ومعارفهم، وإني قد فصلت الكلام في الدور الذي لعبته العربية في اليقظة الأوربية؛ لأن الكذب والافتراء كانا قد كثرا في العصر الحاضر، وكان التفصيل لا بد منه للقضاء عليهما".
ويقول المستشرق آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري): "لا يعرف التاريخ أمة اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها كما فعل المسلمون في عصور نهضتهم وازدهارهم، فقد كان في كل بيت مكتبة".
ويقول رينيه جيبون: "لم يدرك كثير من الغربيين قيمة ما اقتبسوه من الثقافة الإسلامية، ولا فقهوا حقيقة ما أخذوه من الحضارة العربية في القرون الماضية".
ويذكر "هينولد" أن ما قام على التجربة والترصد هو أرفع درجة في العلوم، وأن المسلمين ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء. فقد قام منهاج المسلمين على التجربة والترصد، وكانوا أول من أدرك أهمية المنهاج في العالم، وظلّوا عاملين به وحدهم زمنًا طويلاً.
ويقول "دُولنبر" في كتاب (تاريخ الفلك): "لقد منَح اعتمادُ العرب على التجربة مؤلفاتِهم دقة وإبداعًا، ولم يبتعد العرب عن الإبداع إلا في الفلسفة التي كان يتعذر قيامها على التجربة". ويستطرد قائلاً: "ومن مباحثنا في أعمال العرب العلمية أنهم أنجزوا في ثلاثة قرون أو أربعة قرون من الاكتشافات ما يزيد على ما حققه الأغارقة في زمن أطول من ذلك كثيرًا، وكان تراث اليونان قد انتقل إلى البيزنطيين الذين عادوا لا يستفيدون منه زمنًا طويلاً، ولما آل إلى العرب حوَّلوه إلى غير ما كان عليه، فتلقّاه ورثتهم (يقصد الأوربيين حديثًا) وحوَّلوه مخلوقًا آخر".
ويقول مسيو ليبري: "لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخرت نَهضة أوربا الحديثة عدة قرون". ولقد أشار أيضًا إلى هذا المعنى المؤرخُ الفرنسيُّ الشهير "سديو" في تاريخه الكبير، الذي ألفه في عشرين سنة؛ بحثًا عن تاريخ المسلمين، وعظيم حضارتهم، ونتاجهم العلمي الهائل، فقال: "لقد استطاع المسلمون أن ينشروا العلوم والمعارف والرقيَّ والتمدُّن في المشرق والمغرب، حين كان الأوربيون إذ ذاك في ظلمات جهل القرون الوسطى..."، إلى أن يقول: "ولقد كان العرب والمسلمون -بما قاموا به من ابتكارات علمية- ممن أرْسَوا أركان الحضارة والمعارف، ناهيك عما لهم من إنتاج، وجهود علمية، في ميادين علوم الطب، والفلك، والتاريخ الطبيعي والكيمياء والصيدَلَة وعلوم النبات والاقتصاد الزراعي وغير ذلك من أنواع العلوم التي ورِثناها نحن الأوربيين عنهم. وبحقٍّ كانوا هم معلمينا والأساتذة لنا".
ويذكر العلامة سديو أيضًا: "أن المسلمين سبقوا كيبلر وكوبرنيك في اكتشاف حركات الكواكب السيارة على شكل بَيضِي وفي دوَران الأرض. وفي كتبهم من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة".
جوستاف لوبون هذا، ولم ينسَ فضلاء علماء الغرب أن يعترفوا بهذه الحقيقة، ونستقي من كتاب "حضارة العرب" لـ"جوستاف لوبون" حيث يقول: "وكلما أمعنا في دراسة حضارة العرب والمسلمين وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم، ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأيتَهم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وإنهم هم الذين مدّنُوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًا، وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الإبداع الفني".
ويستطرد جوستاف لوبون قائلاً: "ولم يقتصر فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة على أنفسهم؛ فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، فهُما مدينان لهم في تمدّنِهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم؛ فهم الذين هذّبوا بتأثيرهم الخُلُقي البرابرة، وفتحوا لأوربا ما كانت تجهله من عالَم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا مُمدِّنين لنا وأئمة لنا ستة قرون. فقد ظلّت ترجمات كتب العرب ولا سيما الكتب العلمية مصدرًا وحيدًا للتدريس في جامعات أوربا خمسة أو ستة قرون. فعَلى العالم أن يعترف للعرب والمسلمين بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة".
ويذكر المستعرب الصيني "لي قوان فبين" وكيل وزارة الخارجية الصينية، وعضو مجمع الخالدين (اللغة العربية) بالقاهرة، وصاحب الدراسات العاشقة لتراث وحضارة العرب والمسلمين "أن الحضارة الإسلامية من أقوى حضارات الأرض، وأنها قادرة على اجتياز أي عقبات تواجهها؛ لأنها حضارة إنسانية الطابع، عالمية الأداء، رفيعة القدر علميًّا وفكريًّا وثقافيًّا. وبعدما تعمّقتُ في الأدب العربي القديم والحديث ازْداد اقتناعي بأن الشرق يمتلك سحر الحضارة والأدب والثقافة، وأنه صاحبُ الكلمة المفكِّرة والعقلية المنظمة. إذن فالحضارة الإسلامية تحمل عوامل البقاء؛ لأنها عصيَّة على الهدم، لتوافر أركان التجدد والحيوية في نبضها المتدفق، وهي من أقوى حضارات الأرض قاطبة؛ لأنها تستوعب كل ما هو مفيد من الآخر وتصهَره في نفسها ليصبح من أبنائها، بخلاف الحضارة الغربية المعاصرة. كما أن الحضارة العربية الإسلامية تتسم بأنها عالمية الأداء والرسالة، إنسانية الطابع، جوهرها نقي ومتسامح".
ويقول الدكتور "خوسيه لويس بارسلو" أحد الباحثين الأسبان: "يجب أن نقرر الأهمية الحقيقية لتأثير العلوم الإسلامية، فهي من الناحية الموضوعية قد ساعدت على وجود المعايير الطبية الحالية". ويذكر من هذا المنطلق: "فقد أرسى الإسلام مدنية متقدمة تعدُّ في الوقت الحاضر من أرْوع المدنيات في كل العصور، كذلك فإنه أيضًا قد جمع حضارة متينة متقدمة، وذلك إذا ما طرحنا جانبًا الاضمحلالَ الواضح للقوى السياسية، والتفكك الظاهر للدول الإسلامية، فإن الشخصية الجماعية للإسلام قد صمَدتْ أمام كافَّة أنواع التغيرات، ذلك لأن معيار الشخصية الجماعية هو المدنيةُ عامة والتقاليد التي لم تنطفِئْ أو تَخمُد. هذه هي روح الإسلام كما يجب أن يفهمها أولئك الذين يحاولون عن عمدٍ وسوء نية تشويه صورته".
وقد حان الوقت لنستذكر هذه الحقائق عن حضارتنا، آملين الإفادة منها لنهوضنا من جديد.
المصدر: مجلة حراء.

جهاد المرابطين في الأندلس

حاول المرابطون بعد دخولهم الأندلس تحرير الأراضي الأندلسية، التي أُخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة؛ فحاربوا في أكثر من جبهة، حتى اقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا[1]. كما حاولوا كثيرًا تحرير طليطلة، (وكانت كما ذكرنا من قبلُ أنَّها من أكثر وأشدِّ مدن الأندلس حصانة على الإطلاق)؛ لكنهم فشلوا في هذا الأمر، وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن التي حولها.

معركة أقليش

بعد موت يوسف بن تاشفين بعام واحد، وفي سنة (501 هـ=1107م) وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة، تدور واحدة من أضخم المواقع بين المسلمين وبين النصارى، وهي التي سُمِّيَت في التاريخ بموقعة أقليش، وقد تولَّى القيادة فيها على المسلمين تميم بن يوسف بن تاشفين، وكان هذا في عهد علي بن يوسف بن تاشفين الذي تولى دولة المرابطين خلفًا لأبيه، وتولَّى القيادة على الصليبيين سانشو بن ألفونسو السادس، وانتصر المسلمون -أيضًا- انتصارًا ساحقًا في هذه الموقعة، وقُتل من النصارى ثلاثة وعشرون ألفًا من بينهم سانشو بن ألفونسو وقائد جيش النصارى[2]، وقيل عن هذه المعركة بأنها الزلاقة الثانية[3].
وسانشو هذا هو ابن ألفونسو السادس من زوجته التي كانت قبل ذلك جارية –واسمها زائدة- أعجبت المأمون بن المعتمد بن عباد الذي كان واليًا على قرطبة، فلما انهزم المأمون وفتح المرابطون قرطبة فرَّت هي ومعها ولداها –حفيدا المعتمد بن عباد- إلى ألفونسو فتنصرت وتزوجها، وأنجب منها ولده سانشو هذا، فهذه عاقبة الطغاة المستبدين!
كان سانشو في الحادية عشرة من عمره، وأرسله أبوه ألفونسو لإثارة حماسة الجند، بعدما أوهنته الشيخوخة ولم يعد قادرًا على قيادة الجيش بنفسه؛ إذ كان قد بلغ الثمانين في ذلك الوقت.

فتح جزر البليار

وتوالت انتصاراتُ المسلمين بعد هذه المعركة؛ ففي عام (509هـ=1115م) استطاع المسلمون أن يفتحوا جزر البليار، تلك التي كانت قد سقطت من جديد في عهد ملوك الطوائف، وقد أصبح المسلمون يُسيطرون على جزء كبير من أراضي الأندلس تحت اسم دولة المرابطين[4].

سياسة المرابطين في الأندلس

ولقد مرَّت سياسة المرابطين في الأندلس بمراحل ثلاث:
1 - مرحلة التدخُّل من أجل الجهاد وإنقاذ المسلمين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزلاقة.
2 - مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعد أن ظلَّ وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباغض بينهم، ولم يُفَكِّرُوا في الاندماج في دولة واحدة، بل فَضَّل بعضهم التقرُّب إلى الأعداء للكيد بالآخرين.
3 - مرحلة ضمِّ الأندلس إلى المغرب؛ فوضعوا حدًّا لمهزلة ملوك الطوائف[5].

<a >مصير ألفونسو السادس

جهاد المرابطين في الأندلسحزن ألفونسو على وحيده سانشو حزنًا شديدًا، حتى مات بعدها بعشرين يومًا[6]، وذلك في 29 يونيه سنة 1109م (ذي الحجة من عام اثنين وخمسمائة[7])، فحزن القشتاليون قاطبة لوفاته، وقد أسس ألفونسو خلال أربعة وأربعين عامًا من حكم قوي مستنير مجد قشتالة إلى قرون، وكان يلقب بـ «نور إسبانيا ودرعها»، وبلغت قشتالة في عهده من القوة ما لم توهنه بعدئذٍ حرب أهلية ولا تقسيم[8].

[1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/54، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص160.
[2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/50، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص160.
[3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث ص253.
[4] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص162.
[5] شوقي أبو خليل: الزلاقة، ص72، والصلابي: دولة المرابطين، ص136، 137.
[6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص159.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب، 4/50.
[8] يوسف أشياخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين 1/142.
.
موقع قصة الإسلام

قصة زائدة الأندلسية

هذه قصة أسطورة باطلة تناقلتها كتب التاريخ الصليبية قديماً وحديثاً ونسجوا حولها الكثير من الأباطيل والأكاذيب التي تظهر المسلمين في صورة من باعوا دينهم وعرضهم من أجل الدنيا وخوفاً من سيف الصليب المقدس!!
وتقع أحداث هذه الأسطورة الكاذبة في أرض الأندلس المفقود في فترة هي الأسوأ في تاريخ تلك البقعة الغالية من جسد الأمة الإسلامية وهو فترة التفكك والانحلال المسماة بعصر ملوك الطوائف حيث تغلب كل من ليس أهلاً لحكم ولا رياسة على جزء من البلاد وأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين وتلقب بألقاب الخلفاء مثل المعتضد والمعتمد والمتوكل وغيرهم وانقسم الأندلس لعدة ممالك متناحرة فيما بينهم في حين كانت أسبانيا الصليبية قد فاقت من غفلتها وأحكمت سيطرتها على شمال البلاد وأخذت تهدد المسلمين بقوة واستطاع ألفونسو السادس أن يحتل مدينة طليطلة وكان ذلك نذير خطر لباقي ملوك الطوائف فأرسلوا لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب فجاء بجيوشه الجرارة بدافع الحمية الإسلامية وحباً في نصرة الدين وانتصر على الصليبيين في موقعة الزلاقة الشهيرة في 12 رجب 479 هـ وانكسر الصليبيون وخفت شرهم وبدلاً من أن يشكر ملوك الطوائف ليوسف صنيعه خافوا منه وتوجسوا منه شراً أن يأخذ منهم بلادهم وبعد أن كسر الصليبيين واستبان له عدم صلاحية هؤلاء الملوك لذلك , وبالفعل أخذ ملوك الطوائف في التحالف مع ألفونسو الصليبي للوقوف جبهة واحدة ضد الخطر المرابطي القادم من المغرب .
وكان أكبر ملوك الطوائف هو المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وقد عقد حلفاً مع ألفونسو الصليبي قدم فيه المعتمد بن عباد ابنته البارعة الجمال 'زائدة' لتكون جارية أو زوجة لألفونسو الصليبي وقد أثار فضيحة كبيرة في الأندلس واتهم ابن عباد بالتفريط في دينه وعرضه .
إلى هناك تنتهي الأسطورة التي تناقلتها كتب التاريخ الصليبية جيلاً بعد جيل كأنها حقيقة لا ريب فيها ويجعلها دليلاً على خذلان المسلمين وانحطاطهم .
أدلة البطلان :
1- إن مما لا يقبله عقل سليم أو حتى سقيم في عصرنا هذا وليس من ألف سنة مضت أن يرضى رجل مسلم فضلاً عن أن يكون ملكاً كبيراً لدولة كبيرة كالمعتمد بن عباد مهما كان انحلاله وجوره أن يزوج ابنته من أمير نصراني صليبي أو يقدمها له جارية .
2- كانت الظروف السياسية والاضطرابات الحادثة على الساحة تمنع المعتمد حتى إن أراد أن يفعل تلك الفعلة الشنعاء من الإقدام عليها لأن خصومه في الداخل والخارج كانوا يسلقونه بألسنة حداد من أجل استهتاره وتهاونه الديني ولم يكن من المعقول أن يقدم على هذه الفعلة الشنعاء ليقدم بذلك إلى خصومه سلاحاً جديداً يضعونه به في صف المارقين والخوارج على الدين .
3- أن المعتمد لم يكن عنده أصلاً ابنة تسمى زائدة وكانت بناته معظمهم صغار السن وقت هذه الأحداث.
4- اضطراب الروايات التاريخية من حيث هل هي زوجة أم خطبة ؟ وهل تمت هذه الصفقة قبل عزم يوسف بن ناشفين على إزالة ملوك الطوائف أم بعدها ؟ وما هو دور ابن عمار وزير المعتمد في الفضية خاصة أن المعتمد قد قتل ابن عمار بيديه لخروجه عليه كما هو ثابت تاريخياً .
التفسير الحقيقي لتلك الأسطورة :
بعد البحث والتدقيق في كتب المؤرخين المسلمين وهم الثقات عند النزاع أن زائدة الأندلسية هذه لم تكن ابنة المعتمد بن عباد بل كانت زوجة ابنة الفتح بن المعتمد الملقب بالمأمون حاكم قرطبة وعندما شعر المأمون بهجوم المرابطين على قرطبة لإزالة ملك الطوائف الظالم أرسل زوجته 'زائدة' وأولاده وحشمه وأمواله إلى حصن 'المدور' على حدود مملكة قشتالة الصليبية وملكها ألفونسو السادس وعندما فتح المرابطون قرطبة وقتلوا حاكمها المأمون خافت زائدة على نفسها وأموالها وأولادها من هجوم المرابطين وهداها شيطانها أن تلوذ بحماية ألفونسو الصليبي المشهور بكلفه بالنساء لأنه لم يكن ينجب ولا ذرية له فانتهز تلك الفرصة وراودها عن نفسها فتنصرت المجرمة وتنصر أولادها وتسمت باسم 'إيايبل' وتزوجها ألفونسو وبالفعل أنجبت له ولده الوحيد 'سانشو' وشاء الله عز وجل أن تموت تلك الكافرة عند ولادتها للطفل 'سانشو' فكرمها الصليبيون ودفنوها في دير ساهاجون واعتبروها بمنزلة القديسيين , ولقد أورد المؤرخ ابن عذاري في 'البيان المغرب' أخبار تلك الحادثة وصرح فيها أن زائدة تلك هي زوجة الفتح بن عباد وليست بنت المعتمد بن عباد ولأن بالصليبيين لا يرضون بالحرب بالسيف والسهام حتى يشنوا حرب أباطيل وأكاذيب عبر التاريخ الذي عبث به كثيراً .
.
مفكرة الإسلام

إسلام القس الفلبيني عيسى بياجو

اسمه عيسى عبد الله بياجو، عمره أربعون سنة، بلده الفلبين، متزوج وله ابن كان قسًّا كاثوليكيًّا ثم اهتدى إلى النور، وشرح الله صدره للإسلام، كان ذلك من أربع عشرة سنة، وهو الآن قد جاء للعمل بالدوحة.. فسعينا إلى الالتقاء به.
سألناه عن حياته قبل الإسلام، فقال: اسمي الأصلي هو كريسانتو بياجو، درست في المعهد اللاهوتي، وحصلت على درجة الليسانس في اللاهوت، وعملت كقس كاثوليكي.
سمعت عن المسلمين كمجموعة من الناس، ولم تكن عندي فكرة عما يدينون به. وفي ذلك الحين كنت لا أطيق حتى مجرد سماع اسمهم؛ نظرًا للدعاية العالمية التي تُوجَّه ضدهم. وحتى المسلمون المنتمون إلى جبهة تحرير مورو في الفلبين كان يُعطى الإيحاء بأنهم قراصنة وهمجيون، يسهل عليهم العدوان وسفك الدماء، هذا الشعور يشاركني فيه معظم نصارى الفلبين الذين يمثلون 90% من السكان.
جاء يوم حضرت فيه محاضرة ألقاها منصِّر أمريكي اسمه بيتر جوينج عن الإسلام، فأخذتني الرغبة في التعرف على هذا الدين، وانطلقت لأقرأ بعض الرسائل عن أركان الإيمان، وأركان الإسلام، وعن قصص الأنبياء، فدهشت من أن الإسلام يؤمن بالأنبياء ومنهم المسيح .
كانت مشكلتي نقص الكتب التي تتكلم عن الإسلام وعن القرآن، ولكني لم أيئس؛ لأنني كنت أستحضر من كلام المبشر الأمريكي قوله: إن التوراة فيها أخطاء؛ مما أدخل الشك في نفسي، فبدأت أكوِّن فكرتي عن الدين الحق الذي أؤمن به. ولم أجد الإجابات عن الأسئلة التي جالت آنئذٍ في صدري حول الإنجيل، وكلما حللت مشكلة أو أجبت عن سؤال، ظهرت مشاكل كثيرة وأسئلة أكثر.
لجأت إلى تفريغ ذهني من كل فكرة مسبقة، ودعوت الله أن يهديني إلى الحق، وكان من المفارقات العجيبة أنني كقسيس كنت أعلِّم الناس ما لا أعتقده؛ فمثلاً لم أكن على الإطلاق مقتنعًا بفكرة الخطيئة الأصلية، والصلب، إذ كيف يحمِّل الله إنسانًا ذنوب الآخرين؟! هذا ظلم، ولماذا لا يغفرها الله ابتداءً؟ وكيف يفعل الأب هذا بابنه؟ أليس هذا إيذاءً للأبناء بغير حق؟ وما الفرق بين هذا وبين ما يفعله الناس من إساءة معاملة الأطفال؟!
بدأت أبحث عن الوحي الحقيقي، فتأملت نص التوراة فلم أجد إلا كلامًا مليئًا بالأخطاء والتناقضات، لا ندري من كتبه ولا من جمعه؛ فأصل التوراة مفقود، وهناك أكثر من توراة.
اهتزت عقيدتي تمامًا، ولكني كنت أمارس عملي؛ لئلا أفقد مصدر دخلي وكل امتيازاتي. ومرت سنتان وأنا على هذا الحال حتى جاء يوم لقيت فيه جماعة من المسلمين يوزعون كتيبات عن الإسلام، فأخذت منهم واحدًا قرأته بشغف، ثم سعيت إلى مناقشة تلك الجماعة التي كانت توزع تلك الكتيبات، فقد كنت أحب الجدال والمناظرة، وهذا ليس غريبًا؛ ففي الفلبين جماعات نصرانية متصارعة يقارب عددها 20 ألف جماعة، وكثيرًا ما كنت أمارس الجدال والمناظرة مع بعض تلك الجماعات، فلما جلست مع ذلك الفريق المسلم في إحدى الحدائق فوجئت بأن الذي يحاورني كان قسيسًا كبيرًا دخل الإسلام، أخذت أنصت لكلامه: عن النظام السياسي في الإسلام، فأعجبني؛ لأنني كنت أحب المساواة التي لم أجدها في النظم البشرية، ولكني حينئذٍ وجدتها في دينٍ مبنيٍّ على كلام الله ووحيه إلى خلقه.
سألت المتحدث عن سبب اعتناقه للإسلام، ثم عن الفرق بين القرآن والإنجيل، فأعطاني كتابًا لرجل اسمه أحمد ديدات، قرأت الكتاب فوجدت فيه الإجابة على كل تساؤلاتي حول الإنجيل، واقتنعت تمامًا، ثم أخذت أقابل ذلك الرجل كل يوم جمعة بعد الظهر لأسأله عن كل شيء، وكان من فضولي أن سألته عن محمد ، وهل هو من نسل إسماعيل؟ فقال: إن في التوراة الموجودة حاليًا ذكر محمد ، وأعطاني مقاطع كثيرة من التوراة في هذا الصدد.
أخذت أبحث لأقتنع، وكان من دواعي اطمئناني أن إيماني بعيسى يجعلني أقبل الإيمان بمحمد ، واستمر بحثي شهرين، شعرت بعدهما ببعض التردد؛ لخوفي على مستقبلي لأنني أعلم يقينًا أنني لو أسلمت فسأخسر كل شيء: المال، ودرجتي العلمية، والكنيسة، وسأخسر والديّ وإخوتي، كان الشيء الذي هزني هو عجزي عن تدريس الناس العقيدة النصرانية؛ إذ أصبحت باردًا جدًّا وغير مقتنع بما أقول، تركت قراءة التوراة حتى لاحظ والداي ذلك.
ثم لقيت صديقي المسلم، وسألته عن الصلاة، فقال لي: الشهادة أولاً، فرفعت إصبعي بتلقائية وقلت خلفه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولم أكن أعرف معنى هذا القول حتى شرحه هو لي بعد ذلك. وقلت: وأشهد أن عيسى رسول الله. كان في المجلس مسلمون كثيرون من جنسيات مختلفة، فقام الجميع وعانقوني وهنئوني، فقلت في نفسي: كل هؤلاء مسلمون رغم اختلاف جنسياتهم وألوانهم، لقد جمعهم الإسلام بلا تمييز، فلماذا التمييز في النصرانية حتى تجد جماعات نصرانية للبيض وجماعات نصرانية للسود؟! فرجعت إلى بيتي ونطقت بالشهادة باللغة الإنجليزية بيني وبين الله تعالى، فليس يهمني الناس.
بقيت على إسلامي من غير أن يعلم أحد من معارفي، وكنت أدخل الكنيسة لمدة ستة أسابيع؛ لأنزع بعد ذلك فتيل القنبلة وأعلن إسلامي، فغضب والداي أشد الغضب، وجاء الكاهن الأكبر إلى المنزل ليناقشني، فعرضت عليه ما عندي من تناقضات الإنجيل، فكلمني عن بعض الشبهات التي تثار حول الإسلام، فقلت له: أقنعني أولاً أن محمدًا ليس رسولاً من عند الله. فوعدني، ولكن لم يرجع، وسمعت بعد ذلك أن الكنيسة كلها تصلي من أجلي لأرجع إلى عقلي، وكأنني صرت مجنونًا.
بدأت بعد ذلك أثبِّت قدمي في الإسلام -دراسة وتعلمًا- وكنت ألقي بعد ذلك برامج إسلامية في التلفزيون والإذاعة المحلية التي تمولها الجهات الإسلامية، ثم تزوجت امرأة مسلمة رزقني الله منها عبد الصمد ابني الوحيد (11 سنة). واعتنق الإسلام بعد ذلك أبي وأمي وأختي وزوجها وابن أخي وبنت أختي. وأحمدُ الله على أني كنت سبب هدايتهم إلى الصراط المستقيم.
بعد هذه القصة المثيرة لإسلام عيسى بياجو سألناه عن حال الدعوة في الفلبين، فقال: يدخل في الإسلام كل شهر أكثر من أربعمائة من نصارى الفلبين حسب السجلات الرسمية، أما العدد الحقيقي فالمرجح أنه أكثر من ذلك، ومعظم أهل الفلبين مسيحيون بالاسم فقط ولا يجدون من يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم من يقتنع بالإسلام، ولكن يعوقه عن اعتناقه عامل الخوف من المستقبل؛ لأنه سيفقد الأسرة وسيفقد العمل، فالناس هناك لا تقبل توظيف من ترك النصرانية.
سألناه عن خير وسيلة للدعوة إلى الإسلام، فقال: إنها المعاملة الطيبة بخلق الإسلام؛ فكثير ممن أسلموا كان دافعهم إلى الاقتراب من عقيدة التوحيد معاملة المسلمين الحسنة لهم، كأن يكون صاحب العمل مسلمًا حسن المعاملة، أو زميلاً لمسلم حسن الصحبة ودمث الأخلاق، وكثير ممن أسلموا في الفلبين لم يسلموا إلا بعد أن عادوا إلى بلادهم بعد العمل في بلد إسلامي؛ إذ أحسوا بالفرق عندما فقدوا المناخ الإسلامي، فتبخرت كل أوهامهم وشكوكهم حول الإسلام، فأعلنوا إسلامهم بعيدًا عن كل ضغط أو تأثير؛ ولذا أوصي بالدعوة الحسنة، وبعدم استعجال النتيجة؛ فالبذرة لا تنمو ما بين يوم وليلة.
وقال الأخ عيسى: إن بعض من أسلموا كان سبب إسلامهم تأثرهم برؤية منظر المسلمين وهم يصلّون؛ لأنه منظر عجيب حقًّا.
سألناه: ماذا عن دعوة المسيحي المثقف ثقافة دينية؟ هل يكفي معه هذا وحده؟ فقال: مثل هذا نأخذ بيده، وندعوه إلى مقارنة أسفار الكتاب المقدس، ودراسة مقارنة الأديان، فتلك الوسائل أفضل لإقناعه.
ثم كان السؤال الأخير عن العقبات التي تحول دون دخول الناس في الإسلام، فقال: أول ما يصد الناس هو الفكرة الخاطئة التي تعشش في أذهانهم عن الإسلام، ثم هناك سلوكيات كثير من المسلمين، الذين -بأقوالهم وأفعالهم- يعطون صورة سيئة عن الإسلام، ثم فتوى بعض المسلمين من غير علم، وتأتي أخيرًا الشبهات التي تثار حول الإسلام من كونه يدعو إلى الإرهاب، ويسيء معاملة المرأة، فيدعو الرجل إلى طلاقها، وإلى الزواج بغيرها، وأنه يحرمها من حقوقها ويقهرها ولا يعطيها حريتها.
ولا شك أن هذه الشبهات كلها منحازة وخاطئة، ولكن -للأسف- تؤلف فيها كتب، وتروَّج بين غير المسلمين لتصدهم عن الإسلام، وهنا يأتي دورنا نحن الدعاة المسلمين لتقديم الصورة المشرقة الحقيقية، ونفض الغبار وهدم السور العالي الذي أقامه الإعلام الهدّام؛ ليحول بين الناس وبين التعرف الحر على دين الله رب العالمين.
.
المصدر: موقع المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بأبها.
 موقع قصة الإسلام