الخميس، 16 أبريل 2015

رد: هل تعود السينما من جديد؟!

الإفساد والاستلاب:
لقد كان كبار السينمائيين في البلاد العربية -وخاصة في مصر محضن السينما العربية- من غير المسلمين، وينفذون إلى عقول المسلمين عبر السينما، ومنهم من غيروا أسماءهم وديانتهم لما اقتضى الأمر ذلك، وكانوا وكلاء للأجانب في العبث بعقول الناس، وصرفهم عن دينهم، وإفساد أخلاقهم، والكلام عنهم يطول.. لكن سأذكر مثالاً واحداً أسلط الضوء عليه، وهو من خلع عليه الإعلام المضلل جملة من الألقاب، وحظي بجوائز عربية وعالمية كثيرة على إفساده، وهو أشهر مخرج سينمائي عُمِّر في مصر طويلا؛ إذ مات عن ثنتين وثمانين سنة، قضى منها ستين سنة في السينما وإفساد الناس بها، وهو النصراني يوسف شاهين الذي يعدونه خاتمة المخرجين الكبار، وفي الاحتفال بمئوية السينما العالمية عام 1996م اختار سينمائيون مصريون يوسف شاهينأفضل مخرج مصري في القرن كله.
كانت الأفلام التي يخرجها تمنع في البلاد العربية في أول الأمر لما كانت ذائقة العرب صحيحة، وأخلاقهم مستقيمة، فتعرضها فرنسا في قنواتها وهي التي كانت تمولها ([1]) فما مصلحة فرنسا من تمويل أفلام عربية ثم عرضها في شاشاتها؟!
أخرج يوسف شاهين فيلم(القاهرة منورة بأهلها) بأموال فرنسية، وعرضه في مهرجان (كان) وأعَجَبَ الفرنسيين لطعنه في المصريين وتصويرهم فيه بأنهم شعب شهواني رخيص متوحش يأكل بعضه بعضاً، وأظهر فيه الشباب المصري شواذَّ يبيعون أنفسهم للأجانب، ونقل فيه الصورة من صلاة الجمعة، وأكوام الأحذية عند باب الجامع إلى جسم راقصة في مرقص، وأظهر في فيلمه الأقباط متحضرين وغير راضين عن هذه الأوضاع في مصر، حتى قال أحد النقاد السينمائيين:«لق� � جمع يوسف شاهين كل البيض الفاسد في سلة واحدة» وذكر أنه صور المصريين كما أرادهم الفرنسيون([2]).
وعلى هذا الفيلم القبيح كافأه وزير الثقافة الفرنسي اليهودي (جاك لانج) فكلفه بإخراج مسرحية(كاليجولا) لأعرق مسرح في فرنسا -على رغم أنوف كل المسرحيين الفرنسيين- وهو لم يقف من قبل على خشبة المسرح لا مخرجاً ولا ممثلاً، ثم أعطاه اعتماداً مفتوحاً لإنتاج فيلم (شامبليون) ([3])
وصنع فيلم (المهاجر) عن قصة يوسف عليه السلام فشوهها أعظم تشويه، حتى قال عنه بعض النقاد السينمائيين:«فيلم المهاجر سابقة غير أخلاقية في التجرؤ على سير الأنبياء والرسل» وعدوها دعوة صهيونية في فيلم سينمائي، ونعتته الناقدة المسرحية سناء فتح الله فقالت:«الخواجا يوسف شاهين». ([4])
وهو من دعاة الفرعونية، ويرى أن مصر ليست إسلامية، وهو وإن كان نصرانياً علمانياً أو متديناً كما يقول البعض؛ فإنه خدم اليهود في هوليوود وشارك المخرجين اليهود في تلميع صورتهم والدفاع عنهم، وساعد في إخراج أفلام تتبنى فكرة المحرقة اليهودية (الهولوكست) ومنها مشاركته المخرج العالمي اليهودي رومان بولانسكي ومساعدته في إخراج فيلم «The Pianist» عن قصة عازف بيانو يهودي يهرب من المحرقة، وأخرج فيلم (اسكندرية ليه) الذي هو حلقة من سيرته الذاتية، ولا يعدو أن يكون الفيلم دعوة للتطبيع مع اليهود، حتى اتهمه بعض النقاد بأنه يهودي أو مستأجر من اليهود، وقد صرح بكراهيته للحجاب والأذان، وكان يقاوم الأذان بتشغيل الموسيقى الصاخبة.
هذا شيء من فساد وإفساد النصراني جوزيف شاهين الذي هلك في رجب من العام الماضي، وناح عليه الإعلام العربي الفاسد بصحفه وفضائياته، وجعله من كبار المصلحين، وصدق الله العظيم حين قال في المنافقين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ] {البقرة:11-12}.
ولا يختلف كثير من السينمائيين عنه فهم ينفذون ما يريده أعداء الأمة منهم شعروا بذلك أم لم يشعروا، فالمخرج اللبناني مارون بغدادي مولته فرنسا في فيلمه(خارج الحياة) الذي صور فيه اللبنانيين وحوشاً كاسرة همجية، بينما الآدمي الوحيد هو الرهينة الفرنسي الذي اختطف وعذب بوحشية. ([5])
وفي تونس كان المخرجان: نوري بو زيد، وفريد بو غدير يخرجان الأفلام التي تقدح في مجتمعاتهم وتطعن في قيمهم بتمويل فرنسي يهودي ([6]).
ولما سُئل المخرج التونسي أحمد الجميعي -وهو مقيم في فرنسا- عن رأيه في تلك الأفلام الممولة فرنسياً، المشوهة لبلاد المسلمين، المملوءة بإيحاءات الجنس والشذوذ قال:«إن الفرنسيين يفرضون نوعيات معينة من الموضوعات ويمولونها ويهللون لمخرجيها »([7])

تهوين غير مقبول:
حول محاولة إعادة السينما من جديد للمملكة وقد عوفيت منها، ومقاومتها من جلّ المشايخ والدعاة وطلبة العلم، والاحتساب على أهلها والداعين إليها، قال فضيلة الشيخ الداعية سلمان العودة سدده الله تعالى:«إن شاشة السينما أصبحت قائمة الآن في كل بيت، وإن شئت قل في كل غرفة توجد شاشة عرض سينمائية، لا تعرض فيلمًا واحدًا أو مادة جديدة فقط، وإنما تعرض العديد من الأفلام أو البرامج ... وأشار إلى أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية بحاجة إلى الانتقال من سياسة المنع إلى ثقافة المناعة... ثم تساءل: ما الفرق إذن بين السينما، وبين الشاشة، أو بين التلفاز ذاته؟!!... موضحاً أن المسألة من وجهة نظره تتعلق بأمرين: وذكر المحتوى المعروض وهو يتمنى أن يكون تربوياً ونظيفاً، ثم أشار إلى ضرورة الضوابط.
ثم قال: ولذا فإن علينا أن ندرك أننا عندما نأخذ بمبدأ المنع والرفض المطلق، فإن هذا الجدار المانع الرافض قد ينهدم بلحظة أو بأخرى، وفي الوقت ذاته يبقى الناس -لأنهم منطلقون من دائرة الرفض والمنع والتخوف- بعيدين عنه، وبالتالي لا تكون هناك مشاركة إيجابية» اهـ كلامه سدده الله تعالى ووفقه.
وهذا الكلام من فضيلة الشيخ فيه من التهوين والتسويغ للسينما ما لا يخفى، كما أنه يفت في عضد المنكرين لها، المحتسبين على أهلها، ويقوي أهل الباطل عليهم، وأظن أن هذا التبسيط المخل للموضوع نابع من عدم إدراكٍ حقيقي للفرق بين عرض الأفلام في صالة السينما وبين عرضه في شبكات التلفزة؛ إذ سوّى الشيخ بينهما، على أن انتشار التلفزة والفضائيات في أكثر البيوت لا يدل على رضا الممانعين بها، وإذا كانت الفضائيات قد تجاوزت في اختراقها للبيوت ممانعتهم سابقاً فعلى الأقل هم سجلوا مواقفهم الرافضة لهذا المنكر؛ براءة للذمة، وإعذارا للأمة، وفتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى المشهورة شاهدة على ذلك.
وفي ظني أن الشيخ سلمان حفظه الله تعالى قد أخطأ حين حجر الدعاة أمام المنكرات ليضعهم بين طريقين لا ثالث لهما: إما المشاركة في المنكر وعدم رفضه ومحاولة تعديله، وإما القدرة على منعه كما هو مؤدى كلامه..ولا سيما أنه يعلم أن السينما منذ صنعت إلى يومنا هذا وهي مرتع الرذائل، ومستنقع الفواحش، وأن من حاولوا تحويلها عن مرادها لتحمل أفكاراً تنفع الناس من الوطنيين والقوميين والإسلاميين قد فشلوا فشلا ذريعاً؛ لأن القائمين عليها والممولين لها في العالم لا يريدون ذلك؛ ولأنها لا تنجح إلا بالإثارة والإغراء، والذي لا تقيده قيود الشريعة سيكون أكثر إثارة وسيطرة على الجمهور من المقيد بقيود الشريعة، وسأذكر لاحقاً بعض النقول عن جملة من أهل الوسط الفني تدل على ذلك.
إن محاولات التهوين من مشروعات المفسدين، ومنها الدعوة لإحياء السينما في بلاد عوفيت منها، وادعاء أن السينما ولجت كل منزل وغرفة عبر الشاشة يدل على عدم إدراك تأثير السينما وما تختلف فيه عن شبكات التلفزة ولو كانت الثانية تعرض الأفلام بعد عرضها في الأولى، وبيان ذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن في إنشاء صالات للسينما وعرض الأفلام المحرمة فيها، واجتماع الناس عليها، مع ما يصاحبها من الدعاية في الشوارع مجاهرة بالمنكر، ودعوة إليه، وتهوين وقعه على القلوب، بخلاف من استتر في بيته فلا يعلم الناس ما يشاهد. بل إن فيها تجرئة العامة على المنكرات واستساغتها؛ لأن الناس يعلمون أن رواد السينما يشاهدون الأفلام المعروضة فيها، ومحتواها معلوم من الدعاية لها، وكان أكثر الناس -ولا يزالون- يزعمون أن الفضائيات التي في بيوتهم هي لأجل الأخبار أو الرياضة، ويتبرؤون من مشاهدة ما فيها من رقص خليع وأفلام ماجنة ولو كانوا يشاهدونها، ومعلوم أن المجاهرة بالمنكر شر من الاستتار به. وبقاء الناس مقارفين لبعض آثام النظر وهم يستخفون بها، ويخجلون من غيرهم أن يعلموا عنهم خير من كسر هذا الحاجز، وتجرئتهم على المنكرات، ومن شاهد أحوال البلاد التي انتشرت فيها السينما يعلم معنى هذا الكلام.
الوجه الثاني: أن الفرق هائل بين مشاهدة الفيلم في صالة العرض السينمائي، وبين مشاهدته في التلفزة، ودليل ذلك: أنه مع انتشار قنوات الأفلام العربية والأجنبية ووصولها إلى البيوت مجاناً فإن جمهور الصالات السينمائية لم يعزفوا عنها، وهي وجمهورها في ازدياد مطرد سواء في مصر والشام أو في بلاد الخليج المجاورة.
والذي يحضر السينما يستسلم بالكامل لأحداث الفيلم، ولا يشغله عنه شيء؛ لأنه إنما جاء لأجله بخلاف الذي يشاهده خلف الشاشة، ويشغله عنها ما يشغله([8]).
وسأضرب مثلين برجلين من عقلاء الناس، وهما من مشاهير العرب قد فتنوا بالسينما فتنة شديدة، فكيف بمن دونهم من السوقة والرعاع:
المثال الأول: الشاعر المشهور أحمد شوقي فقد كان ممن عاصر بدايات السينما وفتن بها فتنة عظيمة، حتى كتب عن ولعه بها بعض السينمائيين، فكتب أحمد بدرخان مقالاً على إثر وفاة شوقي عام 1932م قال فيه:« كان شغوفاً بالسينما يقضي في صالاتها أغلب أيام الأسبوع ... وكان أمير الشعراء يجلس في الصف الأول بقرب الشاشة لقصر بصره...وكان يحضر الفيلم الواحد أكثر من مرة إن كان متقناً...ثم ذكر أنه كان ينظم شعره في صالة السينما. ولما كان ابن شوقي الأكبر علي يدرس القانون بكلية الحقوق بجرينوبل كان والده يكتب له يسأله عن صالات السينما عندهم ليضمن أن يشاهد فيلما جديدا كل ليلة»([9]).
وقد يقال: إن شوقي ما أدرك عرض الأفلام في التلفزيون، ولو أدركها لما ولع بها كل هذا الولع، وهذا منقوض بما بعده.
المثال الثاني: المؤرخ والسياسي الفلسطيني أنيس صايغ قال في سيرته الذاتية:« ذهبنا مرة طلاب المدرسة الداخليين إلى دار للسينما وكنت أول مرة أشاهد فيها فيلما سينمائيا وكان الفيلم من إخراج نجيب شماس وبطلته زوجته صباح، وكان من أوائل أفلامها واسمه (أول نظرة) ومع أنه كان فيلماً عادياً جداً، وربما دون العادي فقد فتح شهيتي على مشاهدة الأفلام إلى حدّ أني أدمنت على ذلك خلال إقامتي في بيروت وكمبردج حوالي ثلاثين سنة حضرت خلالها ما يزيد على عشرة آلاف فيلم كلها في دور العرض وليس عبر شاشات التلفزيون»([10])فهو معاصر ومع ذلك كانت فتنته بالسينما عظيمة مع وجود الأفلام على مختلف القنوات الفضائية العربية والأجنبية وأشرطة الفيديو قبل الفضائيات، ومع ذلك يذهب للسينما ويشاهد عشرة آلاف فيلم وهو الجاد في عمله، وإنتاجه غزير سواء في العمل الصحفي أو في تدوين التاريخ الفلسطيني، وهذا يدل على أنه لا مساواة بين أفلام التلفزة وأفلام السينما.
الوجه الثالث: أن دعاة إنشاء صالات للسينما في المملكة لن يتوقفوا عند مجرد عرض الأفلام فيها، بل هي خطوة أولى لمشروعات من الإفساد متعددة لا يعلم مداها إلا الله تعالى، ومن هذه المشاريع:
1- أن جلب الأفلام السينمائية العالمية أو العربية يسبقه ويصاحبه حملة من الدعايات تمتلئ بها الشوارع ولوحات الإعلانات الكبيرة تحوي صور الممثلين والممثلات، ومن رأى الدعايات في مصر ولبنان وبعض دول الخليج لبعض الأفلام عرف ذلك، حتى إن الدعاية أحيانا تكون بحجم بناية كاملة، وفيها من صور العري والتهتك ما يُخجل الأسوياء، وهذا من أعظم المجاهرة بالمنكرات.
2- أن السينما بوابة عريضة للاختلاط كما هو واقع في الدول الأخرى، وإن بُدئت بمنع الاختلاط فإنها ستنتهي بتكريسه؛ إذ الدوافع للاختلاط فيها أكثر من غيرها، سواء في دراستها أو صناعتها أو حضور عرضها.
3- أن إيجاد صالات لعرض السينما في المملكة يقود إلى الدعوة لصناعتها السينما محليا، وهو ما يسمى بتوطين السينما -ولا سيما في زمن رفع الشعارات الوطنية- وهو ما حصل في مصر التي سبقتنا في السينما وصناعتها، فإنها ابتدأت أجنبية إلى أن جروا الناس إليها جراً وأفسدوهم بها، وجعلوها وطنية بمضامين الأجانب وأفكارهم وأخلاقهم.
4- أن صناعة السينما تتطلب معاهد وجامعات وأكاديميات متخصصة في ذلك، وبعثات طلابية من البنين والبنات لدراسة ما تحتاجه السينما من تمثيل وتصوير وإخراج وغيره، كما حصل في مصر.
5- في وقت البطالة وشح الوظائف سيقتنص شياطين السينما كثيراً من الشباب والفتيات لتشغيلهم في صناعة السينما، ويغرونهم بالمال والشهرة؛ ليكونوا طليعة جيش من المفسدين يُقدمون قدوات لأبناء المسلمين وبناتهم كما كان الحال في مصر والشام.
6- ستكون الحاجة ملحة حين نخرج جيشاً من صُناع السينما ممثلين ومصورين ومخرجين- لأنْ تتبنى الدولة إنشاء مدن متكاملة لصناعة السينما على غرار المدن الرياضية لما انتشرت الرياضة، ومصر التي يكدح أهلها نهارهم للكفاف بُني فيها مدن سينمائية واستديوهات ضخمة بدل المشاريع التنموية التي تنفع الناس.
إلى غير ذلك من المفاسد الكبيرة التي يجرها إقرار السينما؛ ولذا فإنه يتوجب على عقلاء الناس رد السفهاء عن هذا الباب من الفساد والدمار الفكري والأخلاقي الذي يطل برأسه عليهم.
الممانعة أصل شرعي ثابت:
إن انتقاد الممانعين للمنكر ومراغمة أهله بحجة أن هذا المنكر أمر واقع لا محالة، منهج يعارض منهج الرسل عليهم السلام؛ إذ إن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد، ولم يوافق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أقوامهم في منكراتهم من الشرك فما دونه بحجة عدم استجابة أقوامهم لهم، فمتى كانت عدم المشاركة في إثم الآثمين، وضلال الضالين سلبية يُنهى عنها بحجة أن المناعة أولى من الممانعة.
لقد كانت البنوك الربوية واقعا مفروضا، والبنوك الإسلامية خيالا مرفوضا، وقام العلماء ببيان الواجب تجاه الربا وبنوكه؛ براءة للذمة، وتحذيرا للأمة، رغم أنه في فترات الممانعة يبدو لمن رأى واقع الربا وانتشاره أن هؤلاء المشايخ ينفخون في الهواء، لكن هذه الممانعة وبيان الحكم الشرعي في الربا على مدى سنوات طويلة آتى ثماره، واضطرت كثير من البنوك لما عزف الناس عنها خوفا من الربا إلى إسباغ الصبغة الشرعية على معاملاتها، وتشكيل اللجان الفقهية في معاملات التورق والمرابحة والاستثمار والأسهم وغيرها، وما ذاك إلا لتأثير ثقافة الممانعة التي ينتقدها الشيخ وفقه الله تعالى.
ثم إنه لا أحد من القائلين بالممانعة يمنع إيجاد ثقافة المناعة إن قدر القائلون بها على إيجادها، والرفض والممانعة لا تعارض إيجاد المناعة، بل كل يعمل في مجاله، وعند النظر والتحقيق فإن مدافعة المنكر ومقاومة أهله هي من المناعة مع إبراء الذمة، وإنذار الخلق، والإعذار لله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] {الأعراف:164}.
عجبت كثيرا من دندنة فضيلة الشيخ وفقه الله تعالى حول المناعة مع أن الشريعة منعت ما يحرك الغرائز، ويؤدي للفواحش، ولم تبح هذه الوسائل اتكاء على المناعة التي ينبغي أن يتحلى بها أفراد المجتمع، فمنعت من النظر إلى النساء، والاختلاط بهن، والخلوة، وسفر المرأة بلا محرم؛ لأن هذه الأفعال مظنة الوقوع في الفواحش، مع أنه قد يحصل اختلاط ونظر وخلوة وسفر بلا محرم ولا تقع فواحش، بسبب وجود مناعة أو مانع عند الرجل أو المرأة؛ لكن حكم الشريعة أغلبي، فالأصل أن الشريعة فيها منع مع غرس المناعة في نفوس الناس، وهذا المنع يتناول كل ما يثير الغرائز لدى الجنسين، ومعلوم أن عماد السينما منذ نشأت وصارت صناعة وتجارة إلى يومنا هذا إنما هو على إثارة الغرائز، ونشر الفواحش ومقدماتها، فهل من المناعة أن نسمح بالسينما ونسوغها ونحن نعلم ما سيعرض فيها مسبقاً وما تجر إليه من منكرات عدة؟ وهل في باب المناعة المقترح أن نقول للناس لا تحضروا إلا ما كان عرياً عن المحرم؟ أو احضروا وأغمضوا أعينكم إن كان ثَمَّ مشاهد محرمة أم ماذا؟ فالكلام عن المناعة هو كلام مهلهل لا زمام له ولا خطام، وهو إلى التنظير أقرب منه إلى التطبيق.
وأما يتخيله البعض في أذهانهم وما يحلمون به من تحسين وجود سينما نظيفة، فهو في الأذهان والأحلام لا في الواقع المشاهد، فلماذا يحاكمون الواقع بما يحلمون به، ويرسمونه في أذهانهم من خيالات لا وجود لها في الواقع؛ ذلك أن مبنى السينما على الإثارة التي يحبها الجمهور، والإثارة غالباً ما تكون فيما يتعارض مع الدين والأخلاق كالعنف والجنس، فالمعادلة: أنه لا سينما مؤثرة بلا إثارة، ولا إثارة إلا في المحرمات، يقول المخرج الألماني الغربي فولكر شليندروف:«يحرك الجمهور دافعان : الجنس والعنف، أصبحنا جميعا بهذا المعنى كمتعاطي المخدرات نتحرك عندما يحركوننا، عندما يجذبوننا أو يبعدوننا، ولا يوجد لدينا انسجام مع ذواتنا» ([11])
أما العنف: فالسينمائيون يرون أن برامج العنف أكثر رخصاً وسهولة في إشعال اهتمام المشاهد، فتزيد عدد المشاهدين، وترفع تقييم البرامج ، وقبل ذلك تزيد في إيرادات الإعلانات الدعائية، ويبرر أحد كبار رجال صناعة التلفزيون في أمريكا في شهادة أدلى بها أمام لجنة تحقيق خاصة بمجلس الشيوخ الأمريكي قبل سنوات قليلة، أن زيادة برامج العنف والجريمة هي من الضرورات الفنية( التكنولوجية) التي تتطلبها طبيعة المنافسة المشروعة..ويقول الناقد السينمائي المصري محمود قاسم:« إن السينما صورة من الواقع وربما تسبقه أحياناً، فلو نظرنا إلى الجرائم البشعة التي تحدث اليوم، وقرأنا صفحات الحوادث سنجدها مليئة بالعنف والدموية، والسينما من جانبها تجسّد تلك الحوادث أو الجرائم بتفاصيلها وأبعادها كافة، والخطورة تكمن في تجسيد السينما للعنف بصورة نافرة أكثر من الواقع... انعكست السينما الأميركية في أعمالنا، وأثّرت في مخرجين مصريين كثيرين، فانتشرت لغة العنف منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، تحديداً مع أفلام الحركة والمطاردات»([12]) ويلفت الناقد السينمائي المصري كمال رمزي إلى أن ظاهرة العنف في السينما لها أوجه وأبعاد مختلفة، موضحاً أن بعض علماء النفس والاجتماع قال:« إن تجسيد لذة العنف والقتل على الشاشة يعزز الرغبة في تنفيذ مشاهد العنف لدى بعض المهيئين لذلك السلوك» ([13]).
وأما الجنس: فلا يكاد يخلو فيلم أجنبي أو عربي من الإثارة به، حتى جعلوا من الضرورات السينمائية لنجاح الفيلم إلزام الممثلات ببعض حركات الإغراء الجسدي لجذب المشاهدين، وكلام الفنانات في ذلك كثير، تقول الفنانة التائبة هالة الصافي:«أقر وأعترف بأن الحياة التي يسمونها حياة الفن خالية من الفن، وأعترف أنني عشت هذه الحياة.. » ([14])
وتقول الفنانة التائبة هناء ثروت:«وجدت أن الأدوار التي تصل بي إلى النجومية بعيدة كل البعد عن الأخلاقيات التي تربيت ونشأت عليها وأومن بها، فكان علي إما أن أقدم أدوار الإغراء أو أرفض هذه البذاءات تماماً حتى لو كان فيها الأمجاد التي يصورها البعض...إنني لم أجد الفن الذي كنت أحلم به ولكنني وجدت أشياء أخرى نستطيع أن نطلق عليها أي شيء ما عدا أن نسميه فناً...والأفلام التي تعرض الآن والتي تحقق النجومية تقدم أعمالاً مبتذلة فأنا أصاب بالغثيان والقرف والاشمئزاز عندما أشاهد مشهداً من هذه الأفلام..» ([15])
وتاب زوجها محمد العربي أيضا من الفن وقال:«لن نعود إلى عالم الفن مرة أخرى إلا إذا أصبح هناك فن بالمعنى الحقيقي، وأعتقد أن هذا لن يكون» ([16])
وقالت إحدى الممثلات التائبات:«كل فنانة تدعي أن الفن رسالة سامية فأنا أقول أين السمو؟ هل يكون بين الإثارة والعراء؟» ([17]) وتقول الفنانة التائبة شهيرة:«اعتزلت التمثيل لرغبتي في البعد عن الأضواء والشهرة، وأن التقي بالله سبحانه وتعالى بدون دنيا زائفة..كما أن الرائج الآن في سوق الفن هو اللعب على غرائز المتفرج .. العنف ..الأعمال البلهاء الكوميديا الرخيصة ..وللأسف هذا هو الذي يحظى بالرواج».([18])
وتقول الفنانة الإماراتية التائبة نورية سليمان: «وأما ما يخص الوسط الفني فهو لما رأيته من ضياع القيم الأخلاقية مما كان له أثر سلبي عنيف على مفاهيمي وقناعاتي ، هذا ما دفعني لرفض الاستمرار في هذا الوسط»([19])
بل إن إحدى عجائز الوسط الفني وهي ممن ينتقد اعتزال الممثلات سئلت عن مشاهد الإغراء فقالت:«ما أقصده بالفن ليس هو ما يحدث الآن داخل الاستديوهات، ويطلقون عليه فناً، إنك تستطيع أن تصفه بأي شيء عدا أن تسميه فناً أو تسمي من يقوم به فناناً» ([20])
فهاهم أولاء أصحاب السينما وصانعوها وأساطينها يعترفون بما في الوسط السينمائي من القذارة، ويثبتون أن الإثارة هي العماد الذي تقوم عليه السينما، وينفون وجود فن نظيف، وبعضهم يجزم بأنه لا يمكن أن يتحقق؛ ولذلك تركوا الفن..
إن هؤلاء لم يعارضوا الفن لأجل التصوير ولا التمثيل ولا شيء آخر سوى المضمون القذر الذي لا بد منه حتى تنجح الأفلام والسينما، بل إن العجوز التي انتقدت توبة الفنانات اعترفت بأن ما هو موجود داخل الاستديوهات لا يسمى فناً لقذارته.حتى إن كاتباً في مجلة روز اليوسف عرض في دراسة له كثيراً من المشاهد الجنسية في السينما المصرية وهو مؤيد لها ثم ختم دراسته بقوله:«الجنس فى الدراما السينمائية هو ترمومتر لقياس التطرف في المجتمع المصري، ومدى تسامحه وليبراليته، وليس ذلك دعوة لتقديم الجنس لمجرد الجنس، ولكن تعبيد كل المطبات الاجتماعية والمحاذير الرقابية المكبلة للإبداع»([21])
وأما الضوابط والشروط التي تسوغ بها المحرمات فهي أضحوكة هذا الزمن، وأعجوبة يلهي بها المفسدون أهل الغفلة من الناس، وقد رأينا كيف أن الدساتير التي قامت عليها الدول تخرق، فضلا عن مجرد ضوابط وشروط تشترط فيما هو مستنقع للرذائل، ومجمع للمحرمات، فمن يشترطها؟ ومن يراقب تنفيذها؟ وما يعرض في الصحافة عندنا وفي التلفزة الرسمية ينتهك الدستور الإعلامي الذي أقرته الدولة إبان ظهور وسائل الإعلام، بل صارت أجهزت الإعلام تطعن في المنهج الذي قامت عليه الدولة، واجتمعت بسببه!! فكيف بمجرد ضوابط لن تكون حرمتها ومهابتها حرمة الدستور ومهابته.
وفي عام 1947م صدر قانون للسينما في مصر ينص على:« مراعاة احترام الأديان وعدم التعرض للعقائد...ولا يسمح بمناظر الحركات المخلة بالآداب بما فيها الرقص الخليع المغري([22]).
ثم ماذا كان في السينما المصرية بعد صدور هذا القانون خلال ستين سنة غير ما نص على منعه من الإزراء بالإسلام وأهله، والسخرية بأحكام الدين ولغته وعلمائه ودعاته، وأما الحركات المخلة بالآداب بما فيها الرقص الخليع والإغراء الفاتن فلا يكاد يخلو منها فيلم، فالقوانين لا تطبق، والدساتير يخرقها أهل الفساد والانحلال، فكيف بمجرد ضوابط وشروط هي لذر الرماد في العيون؟!
ونحن نرى ماذا يعرض ملاك القنوات الفضائية من أبناء بلادنا في فضائياتهم من التهتك والعري، واستعراض أجساد النساء، مما يعيرنا به كثير من العرب والمسلمين من خارج بلادنا، بل يتندر به بعض الأجانب الغربيين علينا؛ لإثبات تناقضنا وازدواجيتنا، فكيف إذا سنحت الفرصة لهؤلاء المفسدين، وسمح لهم بصب ما فضائياتهم من الفساد على أرضنا في قاعات السينما، ثم في استديوهات صناعتها، ومعاهد تدريسها؟! 
 ودعاة السينما في مصر يعترفون بعد مضي قرن على بدايتها أن قضايا مصر الحيوية لم تأخذ حظها من السينما، وأنها كانت سينما عابثة، وأعظم ما أزعجهم توبة عشرات الممثلات من عفن السينما والتمثيل، والتزامهن بالحجاب([23]).
وهذه نصيحة تقدمها من سلكت هذا الطريق المظلم سنوات طويلة حتى صارت نجمة سينمائية مشهورة ثم تابت منه، وهي الممثلة المصرية نورا فتقول:«فن هذه الأيام فن مبتذل فيه إسفاف ولن يكون رسالة سامية مطلقاً فهو بعيد كل البعد عن الإسلام...إني أنصح كل فتاة تتخذ من هؤلاء الفنانيين قدوة لها، أو تفكر في الزج بنفسها في وسط تلك الأجواء العفنة أن تقف طويلا وتمعن النظر في أحوالهم، وأقوال التائبين منهم، وأن لا تغتر بما هم فيه من المظاهر الجوفاء، وبريق الشهرة الخادع، فما هو إلا كظل زائل أو سراب كاذب سرعان ما يزول فتكشف الحقيقة»([24]).
فهل نبدأ من حيث بدأ الآخرون، وقد سلكوا طريقا مظلما خلال قرن لم ينبت لهم إلا علقماً وحنظلا، فهجره كثير من بناتهم لما ذقن حلاوة التوبة، وعلمن أنهن كن لعباً في أيدي اليهود والنصارى ووكلائهم، ولماذا يُسمح في بلادنا المباركة لأقلية مفسدة أن تفرض فكرها المنحرف على جمهور الناس؟ فأين عقلاء قومي أين؟!
 [رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ] {الأعراف:155}
.
.
 http://majles.alukah.net/t31685/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق