الأحد، 3 مايو 2015

معاهدة جرجان ............................ د . راغب السرجاني موقع قصة الإسلام

توقفنا في المقال السابق عند بنود معاهدة جرجان وماذا فعل فيها سويد بن مقرن من تغيير ليسقط الدولة الفارسية إسقاطًا كاملاً، وكانت معاهدة جرجان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، ونصها:

"هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وإلى أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عِوَضًا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومِلَلِهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين -أي أكرموهم- ولم يبدُ منهم سَلٌّ لسيف، ولا غَلٌّ لمال، وعلى أن من سب مسلمًا بلغ جهده -أي عُوقِبَ- ومن ضربه حلَّ دمه".

وهذه هي معاهدة جرجان، وتختلف عن المعاهدات السابقة في قوله: "ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه". وهي أول معاهدة من نوعها يقر فيها قائد المسلمين الفرس على ديانتهم المجوسية ولا يأخذ منهم جزية على أن يدافعوا عن البلد مع المسلمين، وكان ما يحدث قبل ذلك أن جيش المسلمين لم يكن يستعين بأهل البلد المفتوحة، بل يأخذ منهم الجزية مقابل أن يدافع المسلمون عن البلد، لكن هذه المرة عَرَض عليهم سيدنا سويد هذا العرض، فقبل أهل جرجان الدفاع عن البلد ضد أي هجوم خارجي، وهذا الهجوم سيكون -في الغالب- من الفرس نظيرَ إسقاط الجزية عنهم، وقد يجازيه المسلمون على هذا الدفاع الذي قام به.

انعكاسات التغيير في المعاهدات :

أولاً: توغل جيش المسلمين لمسافات كبيرة داخل الأراضي الفارسية، فما بين الري وقُومِس -مثلاً- ثلاثمائة وخمسون كيلو مترًا كما ذكرنا، وقد أصبح تعداد الجيش الإسلامي قليلاً بحيث لا يستطيع حماية كل المدن التي فتحها، فكان لا بد من توظيف جزء من الفرس في الدفاع عن هذه الأراضي نظير جزء من المال لضعف الدولة الإسلامية عن الدفاع عن هذه الأراضي.

ثانيًا: أراد سيدنا سويد بهذه المعاهدة أن يفرق الفرس إلى طائفتين: إحدى الطائفتين تدافع عن المسلمين، وتأخذ أجرها منهم؛ وطائفة أخرى تحارب المسلمين ولا تريد أن تقبل الصلح معهم، بل تهاجمهم. وهذه المعاهدة أحدثت تفككًا بين الفرس؛ فأصبح الفارسي يقاتل أخاه الفارسي دفاعًا عن "جرجان" لصالح المسلمين، فانقسم الفرس إلى فرقتين: فرقة تتسارع لتأخذ أماكن الدفاع إرضاءً للمسلمين، وتحصل على الأموال منهم أو تُسْقَط عنهم الجزية ويدافعوا عن الأرض، والفرقة التي أخذتها العزة أن تتصالح مع المسلمين وتحاربهم، فستحارب الفرس -أيضًا- لأن من بنود المعاهدة الدفاع عن جرجان ضد أي هجوم حتى ولو كان من الفرس.

ثالثًا: وهذا السبب في غاية الأهمية، وهو أنه طالما يشعر الفُرْسُ بالعداء فلن يتقبلوا الإسلام بنفس راضية؛ فالعدواة والكراهية من أهل الأرض لمن احتلهم هي الأصل في ذلك، وذلك يحول دون تقبلهم الأفكار الإسلامية، أما لو تحولت هذه العلاقة من علاقة عدو لعدو إلى علاقة صداقة أو تجارة أو علاقة يأخذ عليها أجرًا، فمع مرور الزمن تسقط هذه العداوة، وبالتالي يكون الجو أنسب للجيش الإسلامي لنشر الأفكار الإسلامية داخل الأراضي الفارسية.

وهذه المعاهدة التي عقدها سيدنا سويد بن مقرن، وما فكَّر فيه من نتائج لهذه المعاهدة، وما ذكرته كتب التاريخ آتت ثمارها بعد أشهر، فبعد أن علمت طبرستان بمعاهدة جرجان طلبت من المسلمين معاهدة على نهجها، أي على أن يشترك أهل طبرستان في الدفاع عنها نظير إسقاط الجزية وأخذ أجر من المال، ومعظم المعاهدات بعد ذلك كانت على ذلك النهج. ولما أرسل سويد بنود هذه المعاهدة إلى سيدنا عمر بن الخطاب استحسن ذلك الأمر، وهو دفاع الفرس عن الأراضي الفارسية لصالح المسلمين.

والمعاهدات مع اليهود في العصر الحديث صورة طبق الأصل من هذه المعاهدة، ولكن على العكس فالمسلمون أصبحوا مكان الفرس، واليهود أصبحوا مكان المسلمين، وكأن اليهود يقرءون كتب المسلمين ويستفيدون منها ويطبقونها عليهم، ونحن لا ننظر إلى تاريخنا، فقد قسموا البلاد الإسلامية الآن إلى أناس مسلمين يدافعون عن بلادهم، وآخرين يتسابقون ليأخذوا الأجر من اليهود وليأخذوا قطعة أرض كجرجان تاركين كل المملكة؛ لتكون لهم سلطة وحكومة تحت سلطان الاحتلال، وأصبح على الأخ المسلم الذي يريد قتال اليهود قتال أخيه الموالي لليهود والمتعاون معهم، كما نشأت صداقة بين هؤلاء واليهود، بعد أن كان اليهود أعداء أصبحوا أصدقاء، وبيننا وبينهم معاملات من تجارة وتبادل ثقافي وتبادل فني وتطبيع رياضي، وتسقط كل الحواجز وينتج عن ذلك أمران:

ذوبان الأفكار الإسلامية وانتشار الأفكار اليهودية، فكل الأفكار اليهودية الهدامة تأخذ طريقها في الانتشار في منتهى السهولة، بينما تنمحي الأفكار الإسلامية مع الوقت، ولن تقرأ في كتب التعليم أن اليهود أعداء، أو تدرس غزوة من غزوات النبي مع اليهود في كتب التاريخ أو التربية الإسلامية، فلا بُدَّ -عندهم- أن يخرج الجيل القادم وقد تربى على أن اليهود أصدقاء يأخذ منهم الأموال، ويدافع عن أرض المسلمين لصالح اليهود، ولا توجد بينه وبينهم كراهية أو عداوة.

ومهما حاولت أن تربي ابنك على عداوة اليهود لن تفلح؛ لأن الواقع كله يقول إنهم أصدقاء، وبعد سنوات معدودة حسب نشاط اليهود وكسل المسلمين تحدث عملية امتزاج بين الأفكار اليهودية والأفكار الإسلامية، وساعتها لن تجد فرقًا بين المسلمين واليهود.

والمسلمون يفعلون ذلك عن غفلة، أما اليهود فيفعلون ذلك عن نظر وتخطيط، فقد وصلوا إلى النظرة التي وصل إليها سيدنا سويد بن مقرن من قبلُ، وهؤلاء الفرس الذين قاموا بالمعاهدة مع سيدنا سويد بن مقرن إما أن تكون لديهم غفلة أو حب الرياسة وحب التملك لمنطقة جرجان وطبرستان، ولا يهمهم الدولة الفارسية التي تجمعهم، مع أن جرجان لا تساوي فيها شيئًا، ولكن حب التملك هو الذي جعلهم يدافعون عن هذه الأرض لصالح المسلمين ضد إخوانهم من الفرس.

ولكن كيف استفاد اليهود من تاريخ المسلمين؟ وكيف وقع المسلمون في أخطاء الفرس؟ أمر عجيب ولغز محيِّر، وهذا الأمر لا بد أن نستفيد منه لنعرف ما فُعِلَ بنا.

هذا هو نص معاهدة جرجان وطبرستان، وبعد ذلك ستأتي معاهدات شبيهة بهذه المعاهدة، تكررت في الحروب الفارسية.

وبعقد الصلح مع جرجان وطبرستان وتسليم الدولتين انتهت مهمة الجيش الثاني، وتمت مهمة سيدنا نعيم بن مقرن بفتح همذان والري كما خطط لها سيدنا عمر بن الخطاب تمامًا، وأيضًا تمت مهمة سيدنا سويد بن مقرن بفتح قُومِس وجرجان وطبرستان، وزاد على ذلك الشروط التي وضعها في المعاهدة مما كان لها الأثر الطيب على المسلمين، واستحسنها عمر بن الخطاب .

فتح أذربيجان :

كان سيدنا عمر قد وجه إلى أذربيجان جيشين: أحدهما بقيادة سيدنا بكير بن عبد الله والآخر بقيادة عتبة بن فرقد، ومنطقة أذربيجان من المناطق الواسعة وتقع غرب بحر قزوين، ومنطقة الباب في شمال منطقة أذربيجان، وأيضًا على بحر قزوين، وفوق منطقة الباب مملكة الترك وهي مملكة واسعة تقع في شمال الدولة الفارسية، وتصل إلى حدود الدولة الرومانية وعلى رأسها ملك يسمى خاقان، وليس بينها وبين الفرس حروب لمعاهدات كانت بينهما، ولو استطاع المسلمون فتح أذربيجان ومنطقة الباب لوصلوا إلى الحدود الشمالية للدولة الفارسية؛ لذا أرسل إليها سيدنا عمر بن الخطاب جيشين، وفي الوقت نفسه يعمل المسلمون في الوسط والجنوب، فكما ذكرنا من قبل أن الفتوحات كلها كانت تتم في وقت واحد.

وكالعادة يضع سيدنا عمر بن الخطاب خطة محكمة وهو في المدينة ليفتح منطقة الباب وأذربيجان، فيرسل جيش سيدنا بكير من الكوفة ويمر بحلوان ويتجه من حلوان إلى شرق أذربيجان، وفي الوقت نفسه يرسل جيشًا آخر على رأسه سيدنا عتبة بن فرقد من الكوفة ومرورًا بالموصل حتى يصل إلى أذربيجان من الغرب، فيؤدي ذلك إلى انقسام جيش أذربيجان المشهور بقوته إلى قسمين: نصفه في الشرق والنصف الآخر في الغرب، وبذلك يشتت الطرفين، وكان أول من ابتدع هذه الخطة الحربية سيدنا أبو بكر الصديق ، وذلك في بدايات فتوحات فارس لما أرسل سيدنا خالد بن الوليد من الجنوب وسيدنا عياض بن غنم من الشمال؛ ليدخلوا الحيرة من منطقتين مختلفتين، وبعد ذلك طبَّقها سيدنا خالد وسيدنا المثنى بن حارثة وسيدنا سعد بن أبي وقاص، وها هو سيدنا عمر بن الخطاب من المدينة يخطط لمثل هذه الخطة أكثر من مرة.

والجيوش الخمسة التي وجهها سيدنا عمر لفتح الدولة الفارسية يقودها خمسة من صحابة الرسول، وسيدنا بكير بن عبد الله كان صحابيًّا قبل بلوغه الحلم, وكانت له حادثة مشهورة مع النبي، فكان يدخل على نساء النبي قبل أن يبلغ الحلم، فلما بلغ الحلم ذهب إلى النبي، وقال له: إنني قد بلغت الحلم؛ حتى لا يدخل على نساء النبي، فأُعْجِبَ بصدقه ودعا له، وقال: "اللهم صَدِّقْ قوله، ولَقِّهِ الظَّفَرَ"؛ فظل طوال عمره صادقًا ومنتصرًا بدعوة النبي.

وقُتِلَ يهوديٌّ في المدينة فغضب سيدنا عمر لذلك غضبًا شديدًا، وقام وخطب في الناس وسأل عن قاتله، فقال بكير بن عبد الله: أنا قتلته. قال: لقد بُؤْتَ بدمه فأتني بالمخرج. فقال سيدنا بكير: لقد استخلفني أحد صحابة النبي على زوجته وهو خارج إلى الغزو، فذهبت يومًا أَمُرُّ أمام البيت، فوجدت هذا اليهودي يريد أن يعتدي عليها؛ فقاتلني وقاتلته، فقتلته. فصدقه سيدنا عمر بن الخطاب رغم أنه لم يأتِ بشهود بدعوة النبي، فهو يعلم أن النبي دعا له بأن يكون صادقًا؛ فهو لا يكذب. وكتب الشعراء في سيدنا بكير شعرًا كثيرًا في فروسيته التي لا مثيل لها في ذلك الوقت.

يتقدم سيدنا بكير بالجيش حتى يصل إلى مدينة جرميذان وهي مدينة كبيرة في شرق أذربيجان، وفيها إسفندياذ شقيق رستم، وكان لهما أخ ثالث في غرب أذربيجان، وقد قُتِلَ رستم في القادسية وما زال إخوته يحاربون الإسلام.

ويدخل سيدنا بكير في معركة شرسة مع القوات الفارسية في جرميذان، وكان الجيش الأذربيجاني مشهورًا بقوته، والقتال صعب على المسلمين في الجبال فهذه المنطقة كمنطقة نهاوند، إلا أن المسلمين صبروا على القتال، وأنزل الله نصره عليهم بعد عدة أيام، وتمكن سيدنا بكير من أَسْرِ إسفندياذ، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح (يبغي سيدنا بكير الصلح رغم انتصاره في المعركة؛ فالغرض الأساسي من الفتح هو نشر الإسلام والفكرة الإسلامية في هذه البلاد، وينتشر الإسلام بصورة أكبر إذا كان هناك نوع من الصلح والمعاهدات والجزية). فقال له: أمسكني عندك؛ فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجيء إليهم لم يصالحوك.

ولقد هرب أهل أذربيجان إلى الجبال بعد الهزيمة، ومن الصعب أن يتعقبهم المسلمون فيها، وبدأ أهل أذربيجان في حرب من حروب العصابات، ولم يكن في شرق أذربيجان جيش منظم للفرس، ولكن كانت هناك فرق تهاجم المسلمين وينتصر عليهم المسلمون، فقال إسفندياذ لسيدنا بكير: ليس أمامك إلا أن تصالحني وأكون أنا على هذا الصلح (يتطلع ليكون رئيسًا على الأرض، ويدافع عنها لصالح المسلمين دون النظر إلى دولة الفرس التي نشأ فيها).

وفي الوقت نفسه كان جيش سيدنا عتبة بن فرقد قد تقدم غرب أذربيجان (وقد أسلم سيدنا عتبة قبل غزوة خيبر بقليل، أي في السنة السابعة من الهجرة، وكانت أول غزوة شارك فيها، ثم شهد مع النبي بعد ذلك باقي الغزوات).

ويدخل سيدنا عتبة بن فرقد بجيشه إلى غرب أذربيجان، والتقى في أردبيل مع شقيق رستم الثاني في موقعة شديدة، وينتصر سيدنا عتبة بن فرقد على جيش الفرس ويقتل أخا رستم الثاني.

ولما علم أهل أذربيجان بسقوط الجبهة الغربية لأذربيجان وبأسر قائد أذربيجان "إسفندياذ" وأنه ما زال حيًّا، ومن الممكن أن يعود لو صالحوا المسلمين، رجعوا من الجبال، ووافقوا على الجزية، وصالحوا المسلمين على نفس معاهدة جرجان، وهم الذين طلبوا الشرط بأن يدافعوا عن أرض أذربيجان ضد الهجوم الفارسي أو التركي أو الرومي لصالح المسلمين في نظير أن تُسْقَطَ عنهم الجزية، أو يأخذوا أجرًا من المسلمين، وهذه نتيجة سريعة جدًّا لمعاهدة جرجان التي لم يمضِ عليها إلا أشهر قليلة، وبذلك انتهت الحروب في أذربيجان.

وكان سيدنا بكير هو قائد الجيوش العامة في أذربيجان، وبعد أن تم الصلح أصبح سيدنا بكير هو أمير أذربيجان؛ فأرسل رسالة إلى سيدنا عمر بن الخطاب يقول فيها: أَرسِلْني إلى أرض من أراضي الجهاد. فهو ينأى بنفسه عن الراحة والدعة؛ لأنه يطمح إلى شرف الشهادة، ووافقه سيدنا عمر بن الخطاب على طلبه، واستخلف مكانه في شرق أذربيجان سيدنا سمَّاك بن خرشة وهو قادم من "واج روذ" بجيش بعثه سيدنا نعيم بن مقرن بناءً على رسالة من سيدنا عمر بن الخطاب بأن يمد جيش بكير بسماك بن خرشة على رأس ألفي مقاتل للسيطرة على منطقة أذربيجان الواسعة؛ فاستخلفه سيدنا بكير بن عبد الله على منطقة أذربيجان الشرقية، واستخلف على كل أذربيجان سيدنا عتبة بن فرقد.

ويرسل سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا بكير بن عبد الله إلى سيدنا سراقة بن عمرو -رضي الله عنهم أجمعين- ليساعده في فتح مدينة "الباب".

فيذهب سيدنا بكير بفرقة صغيرة إلى منطقة باب الأبواب ليلحق بجيش المسلمين الذي على رأسه سيدنا سراقة بن عمرو، وهو من صحابة النبي، وقد أقلع سيدنا سراقة بن عمرو من الكوفة إلى منطقة "الباب" وليس له شأن بمنطقة أذربيجان مع أنها في طريقه، لكنه يذهب إلى وجهة معينة، وخطة موضوعة بحكمة شديدة، وضعها سيدنا عمر وهو في المدينة، ومدينة باب الأبواب من أكبر مدن "الباب" وتقع على مدينة بحر قزوين، وسميت باب الأبواب لأنها مبنية على أبواب طرق كثيرة مؤدية إلى الجبل فهي منطقة جبلية، وتوجد طرق كثيرة في الجبل، وهذه المدينة على باب الطرق، ولا يستطيع أحد صعود تلك الجبال إلا بعد أن يدخل من مدينة باب الأبواب.

وبعد أن كان سيدنا بكير بن عبد الله قائد الجيوش في أذربيجان يصبح على ميسرة جيش المسلمين تحت إمرة سيدنا سراقة بن عمرو القائد العام للجيوش، وعلى مقدمة الجيوش سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وكان له ذكر مهم في موقعة القادسية هو وأخوه سلمان بن ربيعة الباهلي، وهو ليس من الصحابة رغم إسلامه في حياة النبي، لكنه لم يَرَ النبي، ويتقدم هذا الجيش إلى فتح مدينة الأبواب كما خطط له سيدنا عمر بن الخطاب .

وبعد أن أصبحت أذربيجان تحت إمرة سيدنا عتبة بن فرقد بدأ بتقسيم الغنائم في أذربيجان، وكما ذكرنا من قبل أن أربعة أخماس الغنيمة يوزع على الجيش، والخُمْسُ الآخر يُرسَل إلى بيت مال المسلمين، فأرسل سيدنا عتبة بن فرقد خمس الغنائم إلى سيدنا عمر بن الخطاب وأرسل مع الخمس طعامًا من أرض أذربيجان لا يوجد في الجزيرة العربية؛ ليأكل منه سيدنا عمر بن الخطاب ، ويتوجه الرسول إلى سيدنا عمر بن الخطاب ويدفع إليه خمس الغنائم والطعام، ويتذوقه سيدنا عمر بن الخطاب، ويقول: والله إنه لطيِّبٌ، هل أكل جيش المسلمين منه؟ فقال الرسول: بل هو شيء خَصَّك به عتبة.

فيغضب سيدنا عمر غضبًا شديدًا لم يغضبه إلا في مواقف معدودة كما يذكر الحاضرون، ويرسل رسالة إلى سيدنا عتبة بن فرقد يقول له فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عتبة بن فرقد فليس من كَدِّكَ، ولا كَدِّ أُمِّك، ولا كَدِّ أبيك، لا نشبع إلا مما يشبع منه المسلمون.

وتظهر شدة سيدنا عمر في الرسالة، فهو لا يرضى أن يُخَصَّ بشيء يُفضَّل به على المسلمين، وقد طبَّق هذا الأمر في الإسلام، ونجح هذا الأمر فكان مثالاً عمليًّا يحتذى به.

فتح الباب :

بنظرة حربية ثاقبة يرسل سيدنا عمر بن الخطاب من الجزيرة -وقد فتحت الجزيرة في العام السابع عشر الهجري- جيشًا على رأسه حبيب بن مسلمة ليدخل المدينة من غربها، وكان جيش سيدنا سراقة متقدم ليدخل المدينة من شرقها، تمامًا كخطة فتح أذربيجان، ويمر الجيش من مدينة أرمينية التي فتحها المسلمون أيضًا في العام السابع عشر من الهجرة، ويتقدم الجيشان إلى مدينة الباب.

ويسارع حاكم مدينة الباب -وكان اسمه شهربراز- لطلب الصلح، ويضع هو الشرط بأن يدافع أهل الباب عن الباب نظير إسقاط الجزية أو أخذ أجر من المسلمين، وبدأت تتحقق آثار الصلح مع مدينة جرجان بصور متلاحقة، وسقطت مدينة (الباب) على حصانتها وكانت من أشد المناطق حصانة، وتسقط بطلب أهلها أن يدخلوا في الصلح مع المسلمين على أن تكون لهم الباب، ويدفعوا الجزية للمسلمين أو يأخذوا أجرًا مقابل الدفاع عنها لصالح المسلمين، وتسقط الباب بمنتهى السهولة على غير المتوقع تمامًا.

وبعد فتح الباب أصبح المسلمون على حدود بلاد الترك، وفي أثناء تفكير المسلمين في غزو الترك أو تكملة فتح بلاد فارس يتوفى سيدنا سراقة بن عمرو، ويستخلف مكانه قبل وفاته سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي قائد مقدمة المسلمين، ويُقِرُّه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، فأصبح عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي أمير منطقة الباب.

ويجهز عبد الرحمن بن ربيعة جيشه، ويرسل إلى شهربراز (الذي عقد معه المعاهدة) ويتقدم بالجيش إلى ناحية الشمال ليفتح بلاد الترك، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بَلَنْجَر والترك. قال: لقد رضينا منهم ألا نغزوهم ولا يغزونا. فقال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم، وتالله إن معنا أقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. قال: وما هم؟ فيصف له سيدنا عبدالرحمن الجيش بكلمات قليلة فيقول: هم أقوام صحبوا رسول الله، ودخلوا في هذا الأمر بِنِيَّة، ولا يزال هذا الأمر لهم دائمًا، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم.

وبالتمعن في هذه الكلمات وبالنظر إلى الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون، نعرف لماذا أصبحنا في حالة ضعف وهزيمة، فدائمًا النصر للمسلمين إلى أن يتغيروا، ومن يغيرهم يغلبهم، فببساطة شديدة يصف له جيشه، وأن الجيش منتصر إذا تمسك بدينه، فإذا تغير أصابته الهزيمة، وما فعله أعداء الإسلام في المسلمين كثير، وسنتكلم عن هذه التغييرات في الدرس القادم.

ولم يجد شهربراز حيلة، ودخل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي بجيشه إلى بلاد الترك، وتوغل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة بجيشه في بلاد الترك مسافة تعجب منها المؤرخون العسكريون؛ فقد تَوَغَّل ألفًا ومائة كيلو مترٍ من غير مقاومة تذكر من بلاد الترك، مع قوة الجيش التركي في ذلك الوقت، وكانت مملكة قوية جدًّا وعليها ملك قوي يُلَقَّبُ بالخاقان وكانت في قوة الفرس؛ مما دفع الفرس لأن تعقد معها معاهدة بعدم الغزو المتبادل، ومع ذلك هُزِمَ ذلك الجيش، وكان سر الهزيمة انتشار إشاعة في مملكة الترك كان لها أثر قوي جدًّا، وهذه الإشاعة لم ينشرها المسلمون بل نشرها الترك بين أنفسهم. فما هذه الإشاعة؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق