الأحد، 10 مايو 2015

لاجئ من أقصى الشمال… حينما انبهر ملك السويد بالحضارة العثمانية .....الكاتب : بلال الداهية


عرفت أوروبا خلال مطلع القرن الثامن عشر حربا عظمى مدمرة أطلق عليها اسم “حرب الشمال الكبرى”، وكان طرفاها الرئيسيان مملكة السويد وروسيا القيصرية، وقد امتدت من عام 1700 إلى 1721. وتعد هذه الحرب من بين أخطر الأحداث في التاريخ الأوروبي الحديث حيث أدت إلى تحطم الإمبراطورية السويدية وخروج السويد من مصاف الدول الكبرى في العالم، وإلى ظهور روسيا القيصرية لأول مرة في تاريخها كدولة قوية.
الانتصار العثماني على روسيا في بروث
وقد أثرت الدولة العثمانية بشكل مباشر في هذه الحرب حينما تدخل الجيش العثماني لإنقاذ ملك السويد في اللحظات الأخيرة، وأنزل بالجيش الروسي هزيمة منكرة قرب بروث سنة 1711، وقد لجأ ملك السويد كارل الثاني عشر لدى العثمانيين لمدة ست سنوات، وسنحاول في هذا المقال الموجز التعرف على ظروف لجوء ملك السويد وعلى أحداث الحرب العثمانية الروسية، وعلى ارتسامات الملك السويدي حول إقامته في اسطنبول وأدرنة.
بطرس الأكبر قيصر روسيا
حرب الشمال الكبرى:
تعود جذور الحرب الشمالية الكبرى إلى الصراع بين السويد التي كانت آنذاك القوة العظمى المهيمنة على بحر البلطيق، وبين أعدائها الخمسة الرئيسيين: مملكة بولونيا، وروسيا القيصرية، واتحاد الدانمارك – النرويج وإمارة سكسونيا ومعها إمارة هانوفر، ثم مملكة بروسيا. فبالنسبة لبولونيا فقد كانت تعتبر نفسها صاحبة الحقوق التاريخية في منطقة بحر البلطيق، خصوصا وأنها تشكل اتحادا فيديراليا مع ليتوانيا في دولة واحدة، وأما روسيا فقد كانت بزعامة القيصر بطرس الأكبر تطمع في الوصول إلى السواحل البحرية، وترغب في التخلص من عقدة الدونية التي كانت تعامل بها من طرف السويد والعثمانيين والنمسا، حيث كانت هذه الأطراف الثلاثة تعتبرها مجرد دولة صغيرة لا غير. أما الدانمارك وساكسونيا ودولة هانوفر في الشمال الألماني، فقد كانت كلها تصارع السويد على بعض المناطق الاستراتيجية أبرزها مناطق الشالزفيغ وغوتروب والهولشتاين، وكذلك النرويج التي كانت محلا للنزاع السويدي – الدانماركي. ونازعت بروسيا المملكة السويدية على ميناء براندنبورغ على بحر البلطيق.

قدات كل الدول المتحالفة حملة مشتركة على منطقة الهولشتاين وغوتروب التابعة للسويد سنة 1700، إلا أن الجيش السويدي تمكن من دحر الحلفاء، فهزم الدانماركيين في معركة ترافيندال، وتمكن من طرد البولونيين إلى بلادهم، وأنزل بالقيصر الروسي هزيمة منكرة في نارفا (إستونيا حاليا).
وتابع الملك السويدي كارل الثاني عشر الملقب ب”المحارب” الحرب ضد أعدائه حيث تمكن من دخول بولونيا وعزل ملكها أغسطس الأول وتم تعيين الأمير ستانيسلاف ليتشينسكي مكانه سنة 1704.
أما القيصر الروسي بطرس الأكبر فلم يسكت عن الهزيمة التي لحقت به، وتجمع المرويات التاريخية على كون ملك السويد قد أخطأ خطأ فادحا حينما ترك بطرس يفر بمن بقي من جيشه من معركة نارفا، مرددا عبارة “الروس أصغر من أهتم بشأنهم”، وبعد أشهر طويلة من التدريب، بدأ القيصر الروسي في إرسال غارات متكررة على السويد، لكن القوات السويدية تمكنت من ردها، وأمام تعنت الروس، قرر كارل الثاني عشر التحرك في حملة عسكرية ضخمة على روسيا انطلاقا من الأراضي البولونية.
كارل الثاني عشر لاجئا على حدود الدولة العثمانية:
عبر ملك السويد نهر فيستولا في يناير 1708 بجيش من حوالي 44 ألف مقاتل، ليغزو روسيا في عقر دارها، وبعد عدة معارك صغيرة تمكن السويديون من الانتصار فيها في غرودنو وغولوفتشين وديسنا وغيرها، حدث الالتحام الأكبر في مدينة بولتافا الأوكرانية.

تعرض السويديون لهزيمة ساحقة في معركة بولتافا في يوليوز 1709 حيث كان الجيش الروسي يفوقهم بأضعاف من حيث العدد، وكان مجهزا بشكل أفضل بكثير ومستعدا لمعركة تدور في أرض يعرفها جيدا.
يقول الملك كارل في مذكراته عن المعركة: “كان أمامنا الآلآف من الجنود الروس لكن الجنود السويديون تحركوا بشجاعة وبسالة نادرة وأتجهوا إلى الأمام متحدين الرصاص المنبعث من البنادق الروسية. كذلك الصراخ والأندفاع خرج من الجانب الروسي وفي أذهانهم الموت أو الحياة… كانت النقالة التي تحملني قد تكسرت. لكن أحدهم ساعدني ووضعني على الحصان. خلال لحظات.. مات الحصان الذي كان يحملني… خلال هذا الوقت أستطاع الجيش الروسي أن يحاصرالجيش السويدي وراح فينا الطعن والقتل.. الآلآف ماتوا في المذبحة. المذبحة أستمرت ساعات. سقط مثلها من الضحايا في الجانب الأخرفي الوقت نفسه… في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر.. كان كل شيء قد أنتهى: الجيش الروسي حسم المعركة وأنتصر.. بينما أنا خسرت!
كنت مجروحاً، يجب أن أحمل على نقالة.. قبل لحظات. كان لدي الآف الجنود. بينما الأن لدي بضعة مئات يحاولون أن يخلصوا بجلودهم قبل أن يقعوا بالأسربيد بطرس روسيا الكبر.حاولت مع جنودي أن نتجه إلى تركيا التي كانت في حالة عداء وحرب مع روسيا. نتجه إلى مدينة صغيرة أسمها بيندر”.
مدينة بيندير المولدافية
الحرب العثمانية الروسية ومعركة بروت:
قرر كارل الثاني عشر اللجوء إلى الدولة العثمانية واستقر في مدينة بيندير الصغيرة في مولدافيا الحالية، وصحبه معظم من نجا معه من معركة بولتافا، وقد رحب السلطان أحمد الثالث أولا بملك السويد، الذي حاول جر العثمانيين إلى محاربة روسيا، ولكن الوزير نعمان باشا كوبرولو رفض مقترح الملك السويدي، وأشار على السلطان أحمد الثالث بعدم إقحام الدولة العثمانية في حرب لا تعني لها شيئا.

ولكن الصدر الأعظم ما لبث أن عزل وولي مكانه بلطجي محمد باشا، وقد استغل الجانب العثماني تجاوز الروس للحدود بين الدولتين لملاحقة الملك كارل وجنوده، فأعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا في أواخر سنة 1710.
خرج بلطجي باشا من اسطنبول لقتال الروس والتقى الجمعان على نهر بروت في شمال مولدافيا الحالية، وكان بطرس الأكبر يقود الجيش الروسي بنفسه، وتمكن العثمانيون من سحق الروس، وحاصروهم حصارا شديدا في قلعة ياشي، واضطر القيصر إلى الاستسلام وطلب الهدنة من العثمانيين في أوائل سنة 1711.
وافق العثمانيون على إجراء الهدنة التي نصت على انسحاب روسيا إلى ما وراء نهر دنيبر وإعادة ما كانت روسيا قد أخذته في معاهدة كارلوفيتز سابقا، وأن تدفع غرامة حربية للدولة العثمانية، وأن تتعهد بالكف عن ملاحقة الملك كارل الثاني عشر ملك السويد.
معركة بروت في رسم فنان بريطاني في منتصف القرن الثامن عشر
ملك السويد يقيم داخل الأراضي العثمانية لمدة ست سنوات:
أقام الملك كارل في بلدة بيندير ببلاد البغدان بإذن السلطان أحمد الثالث، وقد أذن السلطان العثماني أيضا للملك بإقامة تجمع سكاني صغير هناك يضم كل اللاجئين السويديين الذين رافقوا كارل، بشرط أن يؤدي الملك نفقات إقامته، ونتيجة لذلك لقبه العثمانيون ب”دميرباش” Demirbaş أي “الرأس الحديدي”، ورغم ما في اللقب من التهكم والاستهزاء فقد قبل ملك السويد به مبدئيا، وعين السلطان أحمد طبيبا يهوديا برتغاليا لعلاج الملك الذي كان يعاني من جرح بليغ جعل حرارته ترتفع باستمرار.

سمى الملك مدينته الجديدة التي بناها داخل أراضي الدولة العثمانية ب”كارلشتاد” Karlstad وقد بدأ هذا التجمع السكاني يكبر شيئا فشيئا، وأصبح عدد السويديين داخله مهولا، خصوصا وأن الملك كارل شرع في افتكاك أسراه لدى روسيا والذين قدروا بعشرات الألوف، وتوطينهم معه في المدينة الجديدة.
بدأ السلطان أحمد الثالث يتضايق من إقامة ملك السويد قرب بيندير، وحينما تكررت الشكاوى من تجار وأهالي المدينة حول اختلاس السويديين للأموال، وعدم تسديدهم للأموال التي اقترضوها من تجار المدينة، إضافة إلى ما تنهى إلى مسامعه من مؤامرات يحيكها ملك السويد داخل البلاط العثماني نفسه، قرر نقل كارل إلى أدرنة، فهاجت العامة ومعها عساكر الانكشارية، وهاجمت مقر إقامة الملك كارل وأتباعه وقامت بتخريبه، وقد أصدر السلطان أوامره إلى الانكشارية بعدم قتل الملك، والاكتفاء باعتقاله، مطلقا عبارته الشهيرة: “علينا إكرام الضيف وإن كان كافرا”.
وهكذا نقل الملك كارل الثاني عشر إلى أدرنة، ووضع تحت الإقامة الجبرية، ومن هناك بقي يسير مملكته عبر إرسال السعاة الذين لم يكونوا يتوقفون نهائيا ذهابا وإيابا بين الأراضي العثمانية والسويد. ونقل بعد ذلك إلى إقامة جبرية جديدة في العاصمة اسطنبول، حيث اجتمع مباشرة بالسلطان أحمد الثالث، ودرس الملك السويدي هناك الجغرافيا والبحرية والهندسة، واطلع على مظاهر التفوق العسكرية والتقني والعلمي العثماني.
وحينما طلب السلطان أحمد من ملك السويد الرحيل إلى بلاده، تلكأ هذا الأخير وماطل، وبقي يتظاهر بالمرض لمدة عشرة أشهر، وفي نهاية عام 1714 رحل إلى السويد بعد أن تلقى تهديدات بخلعه عن العرش حاملا معه كتاب حماية من السلطان العثماني، يمنع أي دولة أوروبية من التعرض إليه، وقد تمكن كارل من الوصول إلى بلاده في ظرف أسبوعين فقط في إحدى أسرع الرحلات في التاريخ الحديث.
Karl_(Charles)_XII_of_Swede
انبهار كارل الثاني عشر بالدولة العثمانية:
درس ملك السويد الكثير من العلوم أثناء إقامته في اسطنبول واطلع على الثقافة والعلوم والمعمار العثماني، وقد تعلم السويديون على سبيل المثال طريقة إعداد الطعام العثماني حيث أعجبوا به، فهناك مثلاً (دولمه)، وهو طعام محشو بالخضروات، وحلوى الفاكهة والقهوة، وهذه الأطباق الثلاثة تعد أساسية الآن في المطبخ السويدي ولكنها لم تدخله إلا مع لجوء الملك كارل إلى بلاد الأتراك. وهناك أيضاً مفردات من مثل (Sofa)، أي كنبة، و(Kisok) أي كشك، و(Divan) أي ديوان، و(Kalabalik) أي مشاجرة، وهي ألفاظ انتقلت إلى اللغة السويدية لأول مرة بعد هذه الحادثة، فبخصوص عبارة كالاباليك التي لا زالت تستخدم إلى حد الآن، فقد اقتبسها السويديون من هجوم الغوغاء والانكشارية على قصر الملك كارل أثناء إقامته في بيندير.

وقد أعجب كارل الثاني عشر بشكل خاص بتخطيط المدن العثماني، وبمجرد عودته إلى بلده السويد، حمل مساعديه على إقامة حدائق وفقاً للنموذج القائم في إسطنبول، كما أُطلق على اثنتين من السفن الحربية التابعة للملك اسمي “يلدرم” أي “الصاعقة” و”ياراماز” أي “المتمردة” أو “المارقة” وفق الألفاظ التركية. ومن الأشياء التي تعلمها كارل الثاني عشر أثناء إقامته نجد لعبة الشطرنج، حيث جلب هذه الرياضة لضباطه في السويد. وفي ذلك الحين، وخلال إقامته في الإمبراطورية العثمانية، أمر كارل الثاني عشر بإرسال بعثة علمية إلى العالم الإسلامي. تحت قيادة الجنرال كورنيليوس لووس.
لقد حافظ كارل الثاني عشر على اهتمامه بالعالم الإسلامي بعد عام 1714م. وبعد عودته إلى السويد حافظ الملك السويدي على علاقاته الحسنة بالإمبراطورية العثمانية من خلال القنوات الدبلوماسية. وتكشف الوثائق أن الإمبراطورية العثمانية دعمت السويديين مرات عديدة بمبالغ كبيرة، ولم يتمكن السويديون من تسديدها، مع قيامهم ببعض المحاولات من خلال إرسال الأسلحة والسفن إلى السلطان العثماني.
وتضمنت بعض هدايا الإمبراطورية العثمانية إلى الملك السويدي مجموعات من الإبل يصحبها رعاتها، وقد وضعت في قصر الملك. كما أن الملك كارل الثاني عشر أقام في قصره مجموعة من الطباخين العثمانيين نظرا لإعجابه الشديد بالمائدة التركية.
تمثل إذن إقامة كارل الثاني عشر في الدولة العثمانية لمدة ست سنوات حدثا فريدا في التاريخ العثماني، كما تبرز لنا الوجه الآخر للحضارة العثمانية في فترة كانت لا تزال فيها تتسيد العالم وتفرض نفسها على الأوروبيين الذين لم يستطيعوا إخفاء إعجابهم بها، بل وسعى الكثير منهم إلى تقليدها ومحاكاتها كما رأينا في هذا المقال.
..
صفحة الرشيف العثماني 
رابط :  http://www.ottomanarchives.info/2015/05/10/%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A6-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%82%D8%B5%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%AD%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%86%D8%A8%D9%87%D8%B1-%D9%85%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84/#.VU-4cCt_cP4.twitter

هناك تعليق واحد: